د. عائشة الفيحان
«ما هو الوطن؟ ليس سؤالاً تجيب عنه وتمضي، إنه حياتك وقضيتك معًا». هكذا قال الراحل محمود درويش في تعريفه لما لا يعرَّف، وفي توصيفه لما لا يوصف. إنه الوطن، وليس أجمل من حب الوطن إلا الوطن ذاته. الوطن الملاذ والفكرة والهوية والفلسفة، والذاكرة، والسلوك، والسؤال العصي عن الإجابة، والإجابة التي لا تختزل ولا تسهب، لكنها تقول كل شيء بشيء من الغموض، وبالوضوح كله.
وذات يوم قال ناظم حكمت: «لو وُضع الشاعر في الجنة لصاح آه يا وطني». وكذلك هو الأمر مع المواطن السعودي الذي لا يملأ روحه سوى عشقه لوطنه؛ إذ كلما شرّق أو غرّب أعادته دروب روحه إلى وطنه، ولو عبر المخيلة التي لا يملؤها شيء سواه، وسوى حبه الذي لا يقارن. وكيف لا يحب وطنه وفيه تجتمع العصور (بحسب تعبير نزار قباني)، وفيه تنحصر ذاكرته، فيصعب عليه تجاهل كل هذا الزخم من ذكريات الماضي والحاضر الذي يعيشه.
وبحق لا يمكن أن نجد إنسانًا ابتعد عن وطنه باختياره أو مرغمًا إلا ويتجرع مرارة الغربة، وإلا لما كان في النفي عقوبة لمن عصى أو أراد فسادًا في البلاد. وهل هناك عقوبة أقسى من رحيله عن بلاده مودعًا ذكريات الطفولة والصبا والأصحاب والأقارب.
وتتضح صورة الوطن وعشقه بشكل جلي حينما يتأمل القارئ ولو بشكل بسيط ما يمكن أن نصطلح عليه بـ(أدب المنفي)، أو ما يُعرف بـ(أدب الاغتراب) لدى بعض الشعراء وقصائدهم في منفاهم وغربتهم عن أوطانهم، وسيجد القارئ أن الطابع العام الذي يهيمن عليها هو الأنين والحنين وتمدد الذكريات، واتساع المخيلة المرتبطة بكل ما يتعلق بالوطن. ومثال ذلك الشاعر الجواهري الذي قال من منفاه متذكرًا تفاصيل تضاريس بلاده بأنهارها ونخيلها:
وَطَـنٌ جَميـلٌ وَجْهُـهُ بَغْـدادُ
وَرِضَابُهُ مِنْ دِجْلَةَ مَعْسُـولُ
كَيْفَ السَّلوُ وَليس تَبْرَحُ بُكْرَةٌ
فيه تَهِيْجُ صَبَابَتي وَأَصِيْـلُ
إنِّـي لَأَشْتاق الْفُـرَاتَ وَأهْلـه
وَيَروُقُنـي ظِلٌّ عَلَيـهِ طليـلُ
وَأُحِبُّ شَاطِئُهُ وَرَوْعـة سَفْحِهِ
تَحْنُو عَلَي الأَمواج فيهِ نخيلُ
فمهما شرّق الإنسان وغرّب لن تأنس روحه، ولن يستقر بدنه إلا في موطنه، فهو معجون من طينه وهوائه وعاداته وتقاليده، وفي تربته دواء وعزة، ولو كان صحراء قاحلة؛ لأن الوطن جزء من نسيجه هو، إنه يسكنه بقدر ما يمكن للإنسان أن يتخيل معنى الوطن.. ولأن الوطن ليس هو الحدود الجغرافية المجردة بل هو الإنسان المندمج بالجغرافيا، وهي مندمجة به، وهو الكل المتكامل شعبًا وحاكمًا وقضية.. إنه ماضينا وتاريخنا الذي نفخر به، وحاضرنا الذي نحياه، ومستقبلنا الذي نبنيه بسواعدنا لأبنائنا.
إن الوطن يستحق منا أن نترابط لا أن نقصي بعضنا تحت أسماء لا يجمعها الوطن، ولا أن نثير النعرات الطائفية والعنصرية التي لن تجلب لنا إلا مزيدًا من الخراب والعزلة والتناحر بين بعضنا، وما أحوجنا إلى أن نبني لا أن نهدم، وما أحوجنا إلى ثقافة التسامح والتعايش التي تتجاوز الطائفة والعرق والهوية الضيقة.