د. عبدالحق عزوزي
أُقيمت في باريس الاثنين الماضي مراسم رسمية لتشييع الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي توفي عن 86 عامًا. وبدأت الجنازة الرسمية بتكريم عسكري في مجمع أنفاليد، تلاه قداس حضره العشرات من الشخصيات العامة والسياسية من مختلف أنحاء العالم، ليدفن بعدها الرئيس الراحل بمقبرة مونبارناس. وأقيمت هذه المراسم بينما تعيش البلاد يوم حداد رسمي تكريمًا لشيراك. وأثارت وفاة شيراك الخميس عن 86 عامًا، الإنسان الذي كان محبًا للحياة والسياسي اليميني المريض منذ سنوات طويلة، حزنًا في فرنسا التي رأسها لمدة 12 عامًا (1995-2007) بعد أن شغل منصب رئيس بلدية باريس من 1977 إلى 1995. وبين الخميس والسبت حضر نحو خمسة آلاف شخص، بينهم يافعون، لتوقيع سجلات التعازي التي وضعت في قصر الإليزيه حتى مساء الأحد، معبرين عن إعجابهم بالرجل الذي أطلق منذ 2002 عبارة «بيتنا يحترق» في مواجهة التغيرات المناخية.
ووقف مواطنون ولساعات طوال، أحيانًا تحت المطر، في وسط مجمع «أنفاليد» العسكري بباريس المعلم الذي يضم خصوصًا قبر نابليون، قبل السماح لهم بإلقاء نظرة على النعش الذي وضع عند مدخل كاتدرائية «سان لوي ديزانفاليد». ووضع النعش الذي لُفَّ بالعلم الفرنسي تحت صورة عملاقة للرئيس الراحل وبين عمودين أحدهما بألوان العلم الأوروبي والثاني بألوان العلم الفرنسي.
كل من عرفه ولازمه في جوانب من حياته إلا ورأى فيه جانبين من الشخصية: شخصية الأسد السياسي الذي يجيد اللعبة الإنسانية، وجانب الرجل الإنساني الذي يجد سعادته في سعادة الآخر والتفاني في خدمته؛ وكان يشعر الآخر بدفء إنساني قل نظيره بسلامه الحار وابتسامته العريضة ولباسه الأنيق وكاريزمته التي لا يعلى عليها. كنت عندما أجتمع في بيت السيد كزافيي غيراند هيرميس بباريس، في اجتماعاتنا حول تحالف الحضارات والتنوع الثقافي والاجتماعات المتوسطية، ألتقي بالرئيس الفرنسي الراحل وزوجته برناديت شيراك حيث كانا جارين لنا؛ وكانت ابتسامته وحرارة سلامه لك لا يمكن أن يوصفان، وكانت ثقافته الواسعة تثير إعجاب السامع....
ولا غرو أن نجد بحسب استطلاع لمعهد «إيفوب» نشرته صحيفة «لوجورنال دو ديمانش»، فإن الرئيس الراحل الذي زادت شعبيته بعد انسحابه من العمل السياسي، بات يعتبر من قبل الفرنسيين أفضل رئيس للجمهورية الخامسة (منذ 1958)، بالتساوي مع شارل ديغول. وكتبت صحيفة لوجورنال دو ديمانش «شيراك لم يكن بالتأكيد ملاكًا. هذا المحب للحياة (...) تجاوز بالتأكيد الخطوط (...) وكان ذلك ثمن السعي وراء السلطة»، مشيدة مع ذلك بـ»رفيق الفرنسيين» و»خصاله» وهي «البساطة والإقدام والمقاومة والطموح، لخدمة مصالحه طبعًا ولكن أيضًا لخدمة بلاده»
ويقيني أنه بعد ذهاب الرئيس الفرنسي شيراك من قصر الإيليزي لم يعد الفرنسيون يثقون كثيرًا في الأحزاب؛ لذا صوتوا منذ ولأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، على رئيس لا يمثل لا اليسار ولا اليمين؛ ونحن نعلم مع العديد من الإستراتيجيين، أن الفاعلين السياسيين الفرنسيين ومنذ سنوات ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة وهم غارقون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس؛ فوصل حزب الوسط الجديد برئاسة شاب ذكي اسمه ماكرون، كان يعمل مستشارًا للرئيس هولاند في قصر الإليزي قبل أن يعينه وزيرًا للمالية، وقبل أن ينقلب بحرفية وذكاء على الدولة العميقة الفرنسية... ثم وهو ما كان منتظرًا كان قد وصل الحزب اليميني المتطرف بزعامة السيدة لوبين إلى الدورة الثانية من الانتخابات، وهي كانت تتغذى انتخابيًا على حساب الهجومات الشرسة التي تقوم بها على المسلمين وقناعاتها المتطرفة بإغلاق الحدود مع أوروبا ومنع توافد المهاجرين بكل أصنافهم... وصل هذان التوجهان إلى الدورة الثانية، ولكن السيد ماكرون هو الذي جلس على عرش الإليزي، ولم يصل لا اليمين ولا اليسار إلى الحكم لأن الشعب الفرنسي لم يعد يثق فيهم ولا في أفكارهم ولا في إيديولوجيتهم، وأحدث زلزال في تاريخ الجمهورية الخامسة وفي مصير الدولة الوطنية. ثم المهم من هذا المثال، هو أن مسألة الثقة هي من المحددات التي تطبع مسار تكوين الدولة والمؤسسات.... ولئن كانت المجتمعات السياسية مختلفة من قطر إلى آخر، فإن مدى تماسكها وقوتها على رد الرياح العاتية والمياه الأجاج الجارفة، يكمن أولاً وقبل كل شيء في الثقة.