زوجي معلم للمرحلة الابتدائية، تقاعد تقاعدًا مبكرًا باقتراح مني نظرًا لتردي حالته الصحية، عن عمر تجاوز الخمسين، ولكن الذي حدث بعد تقاعده هو تردي حالته النفسية أيضًا؛ فقد تحولت شخصيته بالكلية من شخص اجتماعي مرح هادئ محب لأسرته، إلى آخر انطوائي معتزل متذمر سريع الانفعال، وكثيرًا ما يلقي باللائمة علي لكوني كنت من ألح عليه باتخاذ هذه الخطوة، لم تنجح محاولاتي معه لإخراجه من عزلته، وإلحاقه بأحد النوادي أو لقاء زملائه السابقين في إحدى الاستراحات، أخاف عليه من تطور حالته ودخوله في مرحلة حادة من الاكتئاب. ما الحل معه؟
الحل:
حين خلق الله آدم عليه السلام أخبر ملائكته بذلك وكان مما كرمه به النفخة الروحية، وشرف العلم، وهذا ما أهله وذريته إلى استحقاق التفرّد بالخلافة، ولذا فآدم وبنوه من أشرف المخلوقات قاطبة، هذا بالنظر إلى أصل تكريمهم وجهتهم، وهذا التشريف لا يملك أحد نزعه عنهم، سواء ثقافة اجتماعية، أو تقسيم طبقي، ولكننا - وعلى الرغم من ذلك- كثيرًا ما نخلط بين هويتنا الحقيقية، وهويتنا الشخصية التي تبرز من خلال الأعمال المهنية التي نقضي جل اعمارنا ونحن نمارسها، فيبلغ حد الانتماء إلى المهنة ما يفوق الوصف، ونعدها كجزء رئيس من كينونتنا، وهذا يعود لمقدمات كثيرة ومتشابكة، أهمها أن العمل مناخ مناسب لتفاقم ظهور «الأنا الشخصية»، ففي الأوساط الاجتماعية فإن الشخص يعرف نفسه بالاسم والعائلة والمهنة. والمهنة هي ليست وسيلة لكسب المال وحسب بل هي قناة رئيسة للإنجاز والبذل والعطاء وهذا يترجم لغة الروح المحبة للإحسان والبذل والعطاء من جهة وأيضًا يعد مكسبًا شخصيًا «للأنا « التي تحتاج إلى الشعور بالثراء والاكتفاء العاطفي. أضف لذلك أن القناة الرئيس في الإنجاز الذي يحس معه الشخص بإشباع الحاجة لتقدير الذات، وتحقيقها، هو العمل الذي يمارسه، الذي يستغرق جل وقته وطاقته.
لا يخلو العمل من مكدرات ومنغصات بعضها صادم ومزعج، مسبب لعدد من الأمراض، ولكن في العمل تتكرر تجارب يومية نتلقى من خلالها دروسًا وحكمًا ومهارات تخدمنا في تحليل وفهم علاقاتنا الاجتماعية، فترك هذا كله دفعة واحدة، وفوق هذا تلبية للوهن واستسلامًا للضعف، هذا كله يحتاج لقوة نفسية هائلة تمكنه من اجتياز مرحلته تلك.
وإلى أن ينجح في ذلك من واجبه الانتباه إلى مسائل عدة:
أولها أن قرار التقاعد قد تم باختياره الواعي، وإن كان تحت ضغط طارئ كالمرض، إلا أنه يبقى قراره.
ثانيًا: لا ينبغي أن يسمح لنفسه للبحث عن أحدهم لإلصاق التهمة به، فهو المسؤول الوحيد، ومن مسؤوليته الخروج من هذه المرحلة بسلام. إِذ اعتياد هذه اللغة تتسبب في تصديق دوره كضحية.
وواجبك أيضًا، وأفراد عائلته تقديم الدعم المناسب له وذلك بالتالي:
1- تشجيعه على الالتحاق بأحد النوادي الرياضية، فالرياضة ليست مطلبًا للياقة البدنية فحسب، بل هي هدف لكثير ممن ينشدون الشعور الرائق بعدها بالانسجام والراحة والهدوء؛ نظرًا لارتفاع إفراز هرمون الدوبامين (هرمون السعادة).
2- لست متحمسه لالتحاقه - حتى من خلال التطبيقات التقنية- بأشخاص تغلب عليهم لغة التأنيب والتخويف، والتشاؤم والتذكير الدائم بالمرض والعجز والشيخوخة والفناء، بل لا بد من تشجيعه على الاجتماع بأشخاص إيجابيين مرحين محبين للحياة والمتعة والإنجاز في آن واحد.
3- لا يعد متأخرًا حين يحاول جاهدًا التفتيش في هواياته القديمة وهذه تعرف بتذكر مراحل عمره، لا سيما طفولته، فالهوايات هي كالمال المدخر ينفع، وقت وطأة الحاجة، انفض عنها الغبار ونمها واشتغل بها ستجد في كنفها سعادة تفوق الوصف، كالبستنة، الرسم، الكتابة، القراءة، الشعر، النجارة،
أما عنه فأذكره:
4- أن ممارسة القبول والتسليم والرضا بما الله قضى تعد من أجود العبادات وأعمقها، وهي طريقك للعلاج الذاتي والشعور بالسكينة والسلام، كما أنها الاختبار الحقيقي في علاقتك وثقتك بتدبير ربك. إِذ رحمة ربك تفوق رحمتك بنفسك أضعافًا؛ فقد اختار الله لك الراحة مع الرزق في حين أنك لم ترضها بهما لنفسك، وفي حين أن هناك ملايين من البشر حول العالم، يزاولون أعمالاً شاقة وهم يزيدون على عمرك بعقدين أو ثلاثة. تذكر أن السكينة الداخلية تقدم لك الجدارة الذاتية، سواء كنت تزاول مهنة ما أو لا؛ فأنت لم تُخلق لمزاولة هذه المهنة تحديدًا، وإنما خُلقت للاستخلاف عمومًا.
5- من إنصاف النفس تذكيرها بإنجازاتها وسلسلة عطاءاتها، ونلحظ أن ذلك حاضر في ذهن عدد من الناس، ولكنه يغيب عن ذاكرة عدد آخر، ممن ينقصهم التقدير الذاتي العميق، فيترتب على ذلك بخس النفس وازدراءها واعتبارها من سقط الحياة، وهذا ظلم بحق النفس، يجب إيقافه فورًا بإنعاش ذاكرتك، وتذكيرك بأصل خلقتك، ودورك الإيجابي في الحياة، يمكنك فعل ذلك من خلال تسجيل أقوى إنجازاتك وأجمل ذكرياتك.
6- عليك بالتجريب، فالحياة حافلة بالتجارب الغنية والمثيرة، إِذ يمكنك القيام بأعمال تطوعية أن قويت على ذلك، أو يمكنك بمشاركة شخص آخر القيام ببعض الأعمال التجارية، السفر، والسياحة، الرحلات الجماعية، تعلم لغة جديدة، ممارسة خبرات لم تعتدها بالمرة، تزيدك دهشة والدهشة من أعمق المشاعر ذات التأثير الإيجابي القوي والفوري.
تذكر أن الحياة لا تقف عن الحركة، لمجرد أنك قررت أن تقف، فاتفق معها وإلا فإن كل ما فيها يمشي ضدك.
Hoda.mastour@gmail.com