عبده الأسمري
يأتي الموت ذلك الزائر الذي لا يستثني أحداً.. يجول في هذه الأرض حاملا ملكه «الأقدار المكتوبة» مضيفا إلى «قوافل الراحلين» «أسماء جديدة». فتتقلب «الظروف» وتتعاقب «الويلات» وتضاف إلى «الحياة» أزمة جديدة وتطغى على الدنيا «مصيبة متجددة»..
مصير الموت المحتوم سكن ذاكرتنا صغاراً ونحن نسمع من قصص الراحلين من الأولين الذي بقت «رحمة الله عليهم» ترفع ذكرهم وتشفع لذكراهم.. وظلت آثارهم «السيرة الباقية» التي تستدعي اتجاهات الدعاء والترحم.
كبرنا ولا نعلم هل كبر الموت في أنفسنا على حجم اتساع مساحات «الراحلين» أم كبر الصبر في داخلنا.. أم أن مواجع الموت المتكررة تصنع «القوة» أو أن مواضع الرحيل باتت متعددة فلم نعد ندري إلى «موضع» نولي «قبلة» التفكير.
الموت «الحقيقة الواحدة» التي نهرب منها ونتهرب من خوض الحديث فيها ونتجنب مجاراة ضرورته ونتجاهل مقابلة حتميته ونتغافل هجومه المجهول عن المعلوم.. لذا نبقى في ابتعاد وبعد عن دائرته منجذبين إلى «آثار مصيره» في رحيل من نعرف تاركين للفجائع «الحضور الطاغي» وللموت «الغياب المؤقت».
على كل واحد منا أن يسترجع أسماء الراحلين في ذاكرته بين حين وآخر ليرى التفاصيل التي سبقت الموت والتفصيلات التي عقبته مع أهمية أن يربط ذلك باتجاهي الاعتبار والانتصار.. في أسئلة مشفوعة بالإجابات.. ماذا أخذ الموت؟ وماذا ترك؟ وماذا قدم الراحل؟ وماذا أبقى؟ وكيف أن الأحياء يعيشون رغما عن صدمات الموت وأن الحياة تسير فرضا رغم أن الموت ماكث على جنباتها ومقيم في جوانبها كقدر يومي يوزع «الاختيار» في كل الأعمار وفي شتى الأمصار.
ينظر البعض إلى «شيخ كبير» يتوكأ عصاه وقد بلغ من العمر عتياً فيكمل عقده التاسع في عائلة يقضي فيها الموت على أبنائه وأحفاده والكل ينظر إليه كرقم أول على قائمة «الرحيل» وينظر هو للموت كرفيق عاجل ومفاجئ إلى رحلة البرزخ فيما تقتضي قدرة الله تفاصيل أخرى وتأكيدات غير متوقعة في إطار حكمة بالغة إلى يوم القيامة في ترتيب أقدار النهاية وتفاصيلها وأسبابها ونتائجها.
وينظر آخرون إلى «أسير السرير الأبيض» نظرات الوداع فيما قد يختطف الموت أحد الناظرين في «قدر مفاجئ».. أو يختار «القدر» طفلا أو شابا أو راشدا في تمام صحته واكتمال عافيته.
يجب تذكر الموت ووضعه في قلب الحدث وقالب الحديث وأن نستذكر التفاصيل المحيطة بهذا «القادم» الذي لا مفر من مقابلته ولا محالة من استقباله في ظل اختيار «غيبي» وانتظار «حتمي» في هذه الدائرة الحياتية الأخروية المترابطة ما بين قدر العيش والموت وضرورة البداية والنهاية.
الموت يبدأ معنا منذ الطفولة فلا يمكن أن تكون هنالك مرحلة دون أن يحل هذا العامل المشترك المستديم لدى كل الخلق والذي يطلق «صافرة» الانتهاء ويعلن «الحداد» وتقام بعده «سرادق العزاء» وتخلفه «ويلات النحيب» و«أوجاع الغيب» على «استقرار الواقع» و«سطوة المغيب» على إشراقة العيش...
علينا أن نضع الموت كلمة ثابتة في قاموس «حياتنا» وأن يظل في ذاكرة ناطقة حية تنكص إليه بشكل مستمر من أجل استنطاق العبر التي تعقبه وتسبقه في قصص الراحلين ومراجعة الرصيد الدنيوي في «العبادات» و«المعاملات» دون الاتكاء أو الاعتماد على «غفلة» تداهمنا فتمسح من عقولنا التبصر والتدبر بما تحمله «الأقدار» و«التدابير»..
الموت «حق» والأحق علينا أن نضع أنفسنا في دائرة «المراجعة» وفي دوائر الاسترجاع لسنوات تنقضي من أعمارنا واضعين في «الحسبان» القضاء والقدر الذي يعد فيه الموت «العنوان الأبرز» والذي تنقضي معه «الحياة» وتقضى فيه «الحتمية».. يجب أن ننظر إلى الموت من زوايا «الاستلهام» ومن أبعاد «الإلهام» بعيداً عن افتراضات الحزن وارتباطات «الألم» ولكن الارتباط بوقوعه ووقعه من باب «العبر والاعتبار» في ظل روحانية تزرع الطمأنينة والسكينة في أنفسنا من منابع «اليقين الإيماني» وينابيع «الاستعداد النفسي».