عبدالعزيز السماري
حقيقة لا يمكن تجاوزها في عالمنا العربي، وهي أننا نمر في مرحلة المتغيرات الكبرى، وهي عاصفة تهب على الأمم، وتتغير من خلالها طريقة الحياة وفلسفتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد مرت فيها أوروبا من خلال تجارب مريرة، لكن أمريكا الجنوبية كانت آخر محطات عواصف التغيير، وقد وصلت أو تكاد تصل إلى شواطئ الأمان.
قد نختلف على معاني الليبرالية، أو الحرية، أو قد نقبل مقولة، متى استعبدوا الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وهي جملة تعني أن الناس يولدون أحراراً بمعنى غير مؤدلجين، وثم يتم تطويعهم يساراً ويميناً، لكن تطور الوعي يصل في نهاية الأمر إلى نتيجة أن الحل هو الليبرالية الطبيعية، ليس لأنها نظام متكامل أو منهج لديه مختلف الإجابات عن الأسئلة..
لكن لأنها تفرض الهدنة والسلم والتسامح واحتمال الآخر، فالعالم بدوله لم يعد يحتمل أن يُحكم من خلال أيدولوجية ضيقة جداً، وحراس مددجين بالأسلحة والعتاد، ثم يُساقون من خلالها إلى التهلكة، وهو ما يحدث الآن في بعض العالم الثالث، لكن مفاتيح التغيير يبدأ عندما يعي الإنسان أن مصالحه تبدأ من خلال حريته المسؤولة ومساواته مع الآخرين تحت مظلة القانون..
يروج بعض المؤدلجين بمصالح ضيقة أن الليبرالية تفشل، لكن ذلك غير صحيح، فقد أصبحت أكثر اكتمالًا، حيث أصبح منطقها الداخلي أكثر وضوحًا وبالتالي تنكشف تناقضاتها الذاتية، فهي تملك القدرة على كشف عيوب المجتمع وأمراضه بشفافية، مما يجعل من كل شيء في منتهى الوضوح، ويستدعي إيجاد الحلول..
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أنها تملك منهجا محددا، فهي حالة متغيرة وتتقدم من خلال تطور وعي المجتمع، في ظل وجود قانون يحكم هذه المتغيرات، ولا يجعلها عرضة للمزايدات والفوضى، ولذلك قد يعتبر البعض ما يجري في الدول الإسكندنافية حالة متطورة من اللوعي الليبرالي، فقد توصلوا إلى وضع يمنع التلاعب بضروريات الحياة، وفي نفس منح الإنسان حريته للعمل والتفكير والإبداع.
يبدو في الأفق أن هناك ملامح تغيير في العقلية العربية تجاه هذا الواقع، فالحالة العربية في شمال أفريقيا تتحول تدريجياً وبوتيرة أكثر تسارعاً نحو مجتمع أكثر تسامحاً وأقل انشقاقاً، والسبب استحالة أن تفرض أقلية أيدولوجيتها المتشددة على الغالبية، ولهذا فشلت مناهج القومية العربية والإخوان المسلمين وحكم العسكر، وسيكون التوجه حتماً نحو مفاهيم المجتمعات المدنية والمساواة تحت مظلة القانون..
بينما لازال الشرق العربي يغرق في ظل الصراع الطائفي، وما يحدث في العراق وسوريا ولبنان أمثلة على آثار المرض القديم، وبرغم من مدنية هذه المجتمعات وعمقها الحضاري في ثقافة العمل إلا أن ولاية الفقيه اخترقت مجتمعاتهم وفرضت عليهم أفكارا غير صالحة للعيش في أجواء الحرية..
موروثنا القديم قائم على الصراع الأيدولوجي، واعتدنا أن نحارب العدو من خلال فرض أيدولوجية ضيقة من أجل توحيد الصفوف، والدليل على ذلك أن حزبي الأيدولوجية السنية والأيدولوجية الشيعية يشتركان في موقفهما من احتلال الصهاينة أرض فلسطين، لكن العداء بينهما يتفوق على عدائهما ضد العدو المحتل، وهو مشهد يختزل مرض العرب السياسي، ولعل الاعتراف به قد يفتح الأبواب لدخول مرحلة الوعي الحقيقي..