أحمد عبدالعزيز الجنيدل
الصراع بين السعودية وإيران ليس مجرد تنافس عابر حول مصالح اقتصادية أو متعلق بتضارب إستراتيجيات سياسية محدودة في موقع محدد، هو صراع طويل ضارب بجذوره في المشروعين السياسيين الذي تمثله كل دولة منهما والرهانات التي اتخذتها كلٍ منهما.
النموذج الذي تبنته المملكة العربية السعودية وظهرت ملامحه في عهد الملك سعود -رحمه الله- يقوم على أربعة مبادئ: الأول أن هدف الدولة الأساسي تحقيق الرفاهية الاقتصادية ونشر العلم والتعليم بين أفراد شعبها. والمبدأ الثاني هو تشجيع التبادل التجاري والدخول في علاقات إيجابية مع العالم الخارجي والاستفادة من تقنيات شركات النفط العالمية وعدم معاداتها. والمبدأ الثالث أن المملكة العربية دولة مستقلة ترفض أن تتدخل الدول في شؤونها الداخلية وهي تعترف في المقابل بسيادة الدول الأخرى وتتجنب التدخل في شؤونها الداخلية، وتؤمن أن الاستقرار في الدول العربية جزء أساسي من تحقيق أمنها القومي. والمبدأ الرابع أن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية علاقة صداقة وشراكة في الأساس.
بالمقابل فإن إيران اتبعت نموذجًا آخر يتناقض بشكل جوهري مع نموذج المملكة ويجعل الصراع بين الكيانين حتميًا ويتمظهر في أشكال مختلفة في مواطن ومجالات عديدة. ويجب التنبه أولاً أنه بينما كان النموذج السعودي هو نموذج تم تبنيه إبان تأسيس المملكة فإن النموذج الإيراني هو انقلاب على نموذج سابق، وهو نتيجة للثورة الإسلامية وإسقاط حكم الشاه في عام 1979. والنموذج الإيراني يقوم على ثلاثة مبادئ: الأول: تصدير الثورة إلى الدول الإقليمية، فأصحاب الثورة الإسلامية (على طريقة تورتيسكي في الاتحاد السوفيتي) كانوا يعتقدون أنه لا يمكن لثورتهم الصمود دون التمدد في الدول الإقليمية. وهذا المبدأ هو ما يجعل دعم الميليشيات الطائفية أمرًا جوهريًا في عقيدة النظام الإيراني ومبدأً أساسيًا يستحيل أن يتخلى عنه. والمبدأ الثاني الذي اكتشفته إيران بعد الثورة الإسلامية أن أفكارها ليس لها موطئ قدم في الدول المتماسكة ذات الحكومة المركزية القادرة على فرض إرادتها، وأن تسللها إلى الدول الإقليمية ينفرج لهم عبر الفوضى وهشاشة الحكومة المركزية، ولذلك عندما يشتمون أي رائحة فوضى في المنطقة يقومون بإرسال وكلائهم لتجنيد الفئات الطائفية في تلك الدول. هذا ما حدث في لبنان والعراق واليمن. والمبدأ الثالث: هو اعتبارها أن الولايات المتحدة الشيطان الأكبر وتفريغ كل شحنات الكراهية ضدها، بل معاداة كل من لا يعاديها. وهذه المعاداة أصبحت أيدولوجيا صلبة في قلب النظام يسوق لها النظام ذاته ويبرر بها تسليحه وتدريبه لكل فئة تعادي أمريكا حتى لو كانت هذه الجهة هي تنظيم القاعدة الذي تعاونت معه ودربته إيران.
لا حاجة لنا للإسهاب في المقارنة بين النموذج السعودي والإيراني لنعرف أيهما أكثر نجاحًا. فمن الناحية الاقتصادية، تقدمت السعودية اقتصاديًا واستطاعت أن تكون ضمن أقوى عشرين اقتصادًا عالميًا وظلت العملة المحلية متماسكة وقوية ولم تنقص قيمتها وتطورت صناعة السعودية للنفط حتى أصبحت «أرامكو» أضخم شركات النفط في العالم. وعلى الصعيد الآخر فقد تدهور الوضع الاقتصادي لإيران وانهارت عملتها المحلية وأسواقها مصابة بالكساد ونفطها لا يباع إلا في السوق السوداء. ومن ناحية العلاقات الدولية، فالمملكة لها مكانة عالمية ممتازة وكل الدول تريد أن تحافظ على علاقة جيدة معها (بما فيها الدول التي تعد حليفة في العادة لإيران كالصين وروسيا) وبسبب مكانتها استطاعت أكثر من مرة استخراج قرار لصالحها من مجلس الأمن (مثل إدانة غزو الكويت وإدانة الانقلاب الحوثي في اليمن)، بينما إيران تبدو كما لو كانت عبئًا على العالم، وتفشل في استخراج قرارات لصالحها من الأمم المتحدة، بل على العكس لم تستطع حماية نفسها من صدور قرارات ضدها من مجلس الأمن. وهي وحيدة ومنفية وليست ضمن أي تحالف سياسي أو عسكري أو اقتصادي. وحتى على صعيد الاستقلال وتحدي هيمنة الدول الكبرى - وهو الموضوع الأثير لدى أصحاب الثورة الإسلامية- فإن إيران في هربها من الهيمنة الأمريكية لم تنج من أنياب الدب الروسي الذي استغل ضعف موقفها فأنشأ لديها قاعدة عسكرية بالرغم من أن إنشاء قاعدة عسكرية لدولة أجنبية داخل إيران أمر يناقض الدستور الإيراني، وعندما تم تسريب وجود القاعدة (الذي سرب الخبر هم الروس على الأرجح) أشعل نيران الامتعاض في أروقة الحكم الإيرانية، وعلى الرغم من أن إيران تقول إن الولايات المتحدة هي الشيطان الأكبر لم تتوان عن الدخول معها في صفقات مختلفة من أبرزها فضيحة إيران كونترا. بالمقابل المملكة العربية السعودية موقفها واضح وواحد ولا تعادي الولايات المتحدة في العلن وتصافحها من تحت الطاولة كما تطمح أن تفعل إيران.