د.عبد الرحمن الحبيب
«عمري 16 عامًا.. لقد جئت من السويد.. وأنا أتحدث نيابة عن الأجيال القادمة. الآن ربما لم يعد لدينا أي مستقبل.» هذه الكلمات الصادمة لغريتا ثونبرغ الناشطة البيئية، قالتها أمام البرلمان البريطاني في أبريل الماضي، متحدثة عن الأطفال الذين تعرضوا للخيانة من قبل السياسيين والناخبين الذين فشلوا في منع تغيّر المناخ. وقالت أيضًا إنها تتحدث عن مليارات الأشخاص الذين لم يولدوا بعد والذين سيتحمّلون وطأة عالم سريع الاحترار.
بعد نشاطها في بلدها الأم ثم ألمانيا وبريطانيا، غادرت ثونبرغ أوروبا متوجهة إلى نيويورك في 14 أغسطس برحلة بحرية استغرقت 15 يومًا عبر المحيط الأطلسي على يخت سباق بلا انبعاثات غازية، فقامت بتسريع مناقشة عالمية حول أخلاقيات التنقل. وقد ساعدت طريقة وصولها إلى أمريكا على زيادة أعداد المحتجين الذين خرجوا يوم الجمعة 20 سبتمبر، في حركة «يوم الجمعة من أجل المستقبل» التي أسستها.
أصبحت ثونبرغ أيقونة عالمية لحماية المناخ خاصة بعد خطابها المؤثِّر والتوبيخي لقادة العالم بالأمم المتحدة، ويمكنها الشعور بالانتصار لأنها عبرت المحيط الأطلسي دون طيران، لكن اثنين من البحارة المحترفين الذين ساعدوها على عبور المحيط أخذا طائرة تجارية للعودة إلى أوروبا! مما يشير إلى صعوبة التوفيق بين المثالية والبراجماتية، والمفارقة المريرة بينهما في أرض الواقع.
تصريحات ثونبرغ أظهرت الفجوة العميقة بين الأجيال الشابة والأكبر سناً عندما يتعلَّق الأمر بسياسة المناخ، حيث توضح استطلاعات الرأي بأوربا وأمريكا أن نسبة الشباب تصل لأكثر من ضعف نسبة الكهول ممن يرون أن تغير المناخ والاحترار العالمي يمثِّل القضية الأكثر إلحاحًا. إنه الصدام بين من لديهم القدرة على التصرف والذين سيتحمّلون العواقب مستقبلاً، حسبما ذكر ديفيد رانسيمان أستاذ العلوم السياسية بجامعة كامبريدج، بعنوان مقاله «الديمقراطية هي أكبر عدو للكوكب».
المشكلة أن الناخبين يريدون حلولاً فورية لقضاياهم الملحة، وقد يخاصمون الحكومات التي تطبق سياسات جديدة لمعالجة تغير المناخ والتي تتطلب خططاً طويلة المدى، وتغييرًا كبيرًا بالسلوك: بالأكل والمعيشة والتنقل.. ومن غير المرجح أن ينظر السياسيون إلى أبعد من المكاسب السياسية قصيرة المدى. ولن يجدي الانتظار حتى تصل الأجيال الشابة وتشكل غالبية بالانتخابات لتغيير السياسات المرتبطة بالمناخ، بل يجب اتخاذ إجراء حاسم قبل ضياع الوقت. يقترح رانسيمان أشكالاً أخرى من الديمقراطية غير الانتخابية مثل الديمقراطية التداولية، التي تسمح للأفراد ذوي وجهات النظر المختلفة بإيصال صوتهم، متحررين من التمثيل الحزبي.
هناك أيضاً من يطرح أهمية المسيرات الاحتجاجية لتشكِّل ضغطاً سياسياً.. فبعد ساعات من أكبر تظاهرة مناخية بالعالم بنحو 4 ملايين شخص احتجاجاً على استجابة المجتمع الدولي الضعيفة للاحتباس الحراري في 20 سبتمبر، كانت في ألمانيا الأكثر ضخامة مما اضطر المستشارة أنجيلا ميركل لاستجابة مباشرة عبر «حزمة المناخ» الجديدة لتقليص انبعاث الغازات والحد من ارتفاع الحرارة التي طال انتظارها..
يتفاءل بحذر الكاتب الألماني بول هوكينوس بتأثير نشاط البيئويين مثل الحركات المناهضة للطاقة غير المستدامة أو مخاطر الطاقة النووية التي ظهرت منذ السبعينات وأدت لزيادة الوعي بهذه المخاطر واستماع أصحاب القرار السياسي لهم وإن كان بطيئاً لكنه لا يدعو لليأس. إلا أن دول الاتحاد الأوربي لا تشكل المصدر الرئيس للتلوث، بل أمريكا والصين، فيما انسحبت الأولى من اتفاق باريس للمناخ مشككة بتغير المناخ.
«لا تضيع وقتك مع المتشككين بتغير المناخ.» يقول هوكينوس؛ فعندما سُئلت ثونبرغ عما إذا كانت تعتزم التحدث مع الرئيس الأمريكي أثناء وجودها بأمريكا، قالت: «لماذا يجب أن أضيع الوقت بالتحدث إليه عندما، بالطبع، لن يستمع لي؟ لا أستطيع قول أي شيء لم يسمع به من قبل.» لكن هوكينوس يرى وجوب استمرار حركة حماية المناخ بتوجيه رسالة عاجلة حول الخطر على وجودنا، فحملة الشباب نجحت بالفعل في هز العديد من المشككين بتغير المناخ في أوروبا. ففي دول الاتحاد الأوروبي، يقول 77 % من المواطنين إن الاحتباس الحراري يعتبر قضية سياسية مهمة بالنسبة لهم.. تلك الطريقة أيضاً يمكنها النجاح في أمريكا والصين.
هناك من يرى أن الطريقة الأكثر فعالية لنشر الطاقة المتجددة هي بإشراك المجتمعات المحلية، مثل انتشار المزارع التي تعتمد طاقة الرياح بشمال ألمانيا، حيث كان الدافع وراء التحول نحو مستقبل لا يحتوي على الكربون من قبل السكان المحليين، وليس شركات الطاقة. كما أنه «ليس بالضرورة أن تكون التنمية الاقتصادية وحماية البيئة على خلاف»؛ كما كتبت ليزا فيسكي ونيت جراهام.. فطاقة الرياح والطاقة الشمسية تنمو باطراد مفيدة كل من الاقتصاد والبيئة، لكن السؤال الذي يطرحانه، هل ستأخذ بها الحكومات؟
أخيراً، يظل الأساس لدى الحكومات بقدرتها على تغيير الأنماط الاقتصادية، فمن المستبعد تحسين المناخ دون التخلي عن النمط الاقتصادي لليبرالية الجديدة، كما تؤكد نعومي كلاين بكتابها «هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ»، ويتفق معها معظم نشطاء المناخ والعديد من علماء الاجتماع الاقتصادي؛ إذ لا يمكن للاقتصادات الاستمرار بالنمو والتوسع بالاستهلاك على الطريقة السابقة غير المستدامة والملوثة للبيئة.. ربما الغالبية يدركون ذلك لكن قد يتناسونها بسبب ضغوط قضاياهم الاقتصادية الآنية!