سهام القحطاني
أحيانا بعض النساء أكثر تعصبا من بعض الرجال، هؤلاء النساء هن من يصنع النسوية المضادة أو يُمكن وصفها كعلامة ايديولوجية «بالنسوية النسقية».
صحيح أن الخطاب الذكوري هو فاعل مؤثر في صناعة النسوية المضادة ليس على مستوى الصفة بل على مستوى المقاومة والحاصل؛ إلا أن هذا الحاصل لا تكتمل دورته التأثيرية إلا بدعم رئيس من النساء أنفسهن اللائي يتحولن فيما بعد إلى «خطاب نسوي مضاد» مستقل الصفة والهيئة عن الخطاب الذكوري، وليس نائب فاعل عنه كما نعتقد، لاختلاف الغاية لكلا الخطابين الذكوري والنسوي في نسخته المضادة، لنجد أنفسنا أمام نسوية مضادة.
وليس تحميلا للدلالة قولي إن «النسوية النسقية» «تمثل نسوية مضادة» كاملة الأركان؛ لأنها تؤسس على منظومة تبريرات لها بنيتها المنطقية التي تحظى بمصداقية عالية، وهي تمثل أغلبية شرائح الواقع ودورة تأثيرية حية ومستدامة.
والأهم أن تلك النسوية المضادة تملك خطابا قويا وفاعلا وذا أثر.
وهو ما يجعل خطورتها «قيمة في ذاتها» تلك القيمة التي تحولها إلى فاعل قوي للكفاية الدفاعية لصدّ أي هجوم مخالف لمعتقداتها وعاداتها المعرفية والسلوكية.
يُمكن تحديد عاملين رئيسيين لظهور النسوية المضادة هما:
العامل الأول: «أيديولوجية التنشئة» وهذه الأيديولوجية بدورها تتشكل وفق ما يأتي:
* تنشأ بعض النساء على فكرة أنهن كائنات ضعيفة، والضعف ليس هنا محصورا في الجانب البيولوجي، بل هو ممتد على طول وعرض الخارطة الإنسانية بكل اتجاهاتها.
* كما تنشأ بعض النساء على فكرة «العلامات الأنثوية» وبجوار تلك الفكرة ينشأ في ظلها الخفي المتضادات لتلك العلامات الأنثوية وهي القوة والاستقلال والمقاومة والمساواة التي تلغي أنوثتها.
* تنشأ بعض النساء على أن الحقوق هو أمر خاص بالرجال والواجبات هو أمر خاص بالنساء، وهذه الفكرة تتحول بالتقادم إلى مسلّمة بالتوارث والواقع.
* تنشأ بعض النساء على «المقولات التمييزية» المتوارثة من خلال خطاب نسوي نسقي مبكر منشور من الأمهات والجدات، مقولات أنتجت بدورها التطبيقات الواقعية لتفكير وسلوك اللامساوة بين الرجل والمرأة بفضل الخطاب التراثي والعرفي الداعم لتلك المقولات التمييزية.
أما العامل الآخر فهو «الاستدامة» «الاعتياد عقيدة في ذاته».
إن التعود على أمر ما وخاصة إذا امتلك ذاكرة تاريخية وتراثية يصبح حقيقة ومسلّمة وهما خاصيتان تحول ذلك التعود إلى عقيدة.
إن تعود العقل الجمعي رجالا ونساء على صورة شكلية وتفكيرية للمرأة مؤكدة المنهج بالتوارث تجعل تلك الصورة هي «الأصل الأصح» الثابت لأي مقايسة، وهو ما يدخل فاعل التغيير وحارس أصل المقايسة شكلا أو فكرا في صراع نسقي تقوده النسوية كطرف أول والنسوية المضادة كطرف ثانِ.
تنبني النسوية المضادة على عدة معايير هي:
* الذاكرة التراثية للمرأة، تلك الذاكرة التي اكتسبتها من خلال الإطار الأيديولوجي لنشأتها الاجتماعية، بأنها تحتاج فاعلا مساندا للتعريف بقيمتها وتأكيدها، في حين أن النسوية هي فاعل جاهز القيمة، وتلك الفاعلية المستقلة هي التي تدفع المرأة للإحجام عن الاندماج في النسوية بمفهومها الفاعلي المستقل؛ خوفا من تجربة الاستقلال المفردة، وهذا الخوف يدفعها للرفض والمقاومة، التي تصبح بديلا تعويضيا لقيمة الفاعلية.
وهو ما يجعلنا أمام فاعلية بالاستقلالية وفاعلية بالمقاومة.
* أثر الصورة المرتبطة بالنسوية، تعتقد النسوية النسقية بأن المرأة التي تدعو إليها النسوية امرأة مجردة من العلامات الأنثوية بالمفهوم التراثي الذي تربت عليه، وهو ما يجعلها بين صورتين مختلفتين لمفهوم الأنثى، والانتصار للأنثى بمفهوم النسوية يعني سقوط للأنثوية النسقية التي تشكل الإطار الدلالي لمفهومها لنفسها مما يدخلها متاهة اضطراب الهوية وقيمتها.
* يمثل الرجل في النسوية النسقية قيمة أعلوية متكاملة في ذاتها استمدها من خصوصية استحقاقية لكونه يملك مالا تستطيع أن تملكه المرأة قولا وسلوكا، في حين تدعو النسوية إلى المساواة بينهما.
وهذا التساوي الصفي في النسوية النسقية يعني إمكانية تبادل الأدوار وإلغاء التراتبية التي تنبني عليها القيمة، وهو تجريد الرجل من رمزيته الفحولية التي تعودت المرأة أن تكتمل بها.
* قوة إدارة النسوية المضادة، وتلك القوة تتشكل من خلال الأغلبية وتلك الأغلبية فيهن المثقفات والمتعلمات والأكاديميات، وطبيعة هذه الأغلبية هي التي تمنح القوة لخطاب النسوية المضادة، وتأثيرها الاجتماعي في خلق ظهير شعبي فعّال، وهو ما صعّب على النسوية اختراق الجدار الفكري للنسوية النسقية.
إن صراع النسوية النسقية هو صراع من أجل الكيان الشكلي والفكري للمرأة الممثلة للنسوية المضادة ومحمولات أفق تصورها الثقافي، صراع تقوده غالبا «فتنة المصطلحات» «التخلف، الرجعية، التطرف، التحرر، الانحلال والليبرالية والعلمانية» تلك المصطلحات التي تحولت إلى علامات ثقافية لكلا الطرفين رسمت من خلالها حدود صراع النسوية والنسوية المضادة.