د عبدالله بن أحمد الفيفي
في مجتمعاتنا العربيَّة يمكن أن يتحوَّل كلُّ عمل، وإنْ كان حفلَ فرحٍ لفئةٍ من الناس، إلى عذابٍ لفئاتٍ أخرى؛ لأنْ لا قيمة للوقت، ولا احترام لأوقات الآخَرين، نعيش نهارنا ليلًا وليلنا نهارًا. على حين لا وجود لبعض هذه الفوضى في المجتمعات التي تُعنَى بشؤون المحافظة على البيئة، بإنسانها وحيوانها ونباتها.
أذكر حينما جاء مقترح في مجلس الشورى لسنِّ قانونٍ لقفل المحلَّات التجاريَّة في ساعات الليل المتأخِّرة، كيف ثارت ضجَّة عارمة حول الموضوع في المجتمع، وكأنَّنا بِدْعًا من البَشر، أو كأنَّنا وحدنا دون العالمين نعيش في كوكبٍ آخر؛ لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالأرض ولا بالحياة. مع أن هذا التنظيم أمرٌ طبيعي، معمولٌ به في البلدان المتحضِّرة، فلا يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل سوى خفافيش الظلام، إنْ وُجِدت. أمَّا اليوم، فلم يَعُد مستغرَبًا أن تقطن في فندقٍ تُقرَع فيه الطبول على رأسك حتى مطلع الفجر، بمناسبةٍ وبغير مناسبة.
غير أن الأمر لا يتعلَّق بالمحلَّات التجاريَّة وحدها أو بالفنادق، بل يتعلَّق أيضًا بالتلوُّث الصوتي العارم الذي يصخب ليلًا ونهارًا من بعض المشاريع الإنشائيَّة، التي تتحوَّل من نعيمٍ منشود إلى عذابٍ مقيم. وبالطبع فإن القائمين على تلك المشاريع لا يهمُّهم الأمر، ولا يستجيبون للشكاوى، ولا يمكن أن يلتفتوا إلى توافه الأمور من قَبيل حقوق المجتمع في أن ينعم أفرادُه بليلٍ هادئ أو نومٍ مريح. العاملون هناك لهم مهاجعهم الناعمة البعيدة، وإنَّما يتناوبون على تعذيب سكان المُدن، فريقًا بعد فريق. وليس لمن قدَّر الله عليه أن يجاور امتداد مشروع ما إلَّا أحد حَلَّين، أحلاهما مُرٌّ: تغيير مكان السكن، أو تحمُّل عذاب الحرمان من النوم، حتى ينتهي المشروع الحلم، أو ينتهي صاحبنا نفسه، غير مأسوفٍ عليه! ذلك أن الأيدي العاملة في تلك المشاريع الإنشائية قد تظلُّ في تنقيرها لسنين طويلة، لا يكاد يُعرَف أولها ولا آخِرها. على أنها، لحكمةٍ بالغةٍ، قد تجدها هادئةً خلال الإجازات، نشيطةً جدًّا منذ أول ليلةٍ قبل بداية العام الدراسي! وهنا- ولحكمةٍ أخرى- قد لا تحلو لها بداية معزوفاتها، كجُلِّ المبدعين، إلَّا عند منتصف الليل أو ربما الثانية صباحًا.
إن التلوث السمعي يَحدُث عادةً بسبب التقدُّم الصناعي، لا لمجرد إنشاء طريقٍ أو إقامة مبنى. ويقاس بمقاييس معيَّنة، وتُوضَع قوانين صارمة حياله. وعلى الرغم من ذلك فمن المعروف أن المجتمعات الصناعيَّة، في الدول المتحضِّرة، تعمل بمقتضى الآية القرآنيَّة، التي لا يعمل بها المسلمون: (وجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) (سورة النبأ، 10- 11). والسبب في أن المسلمين لا يعملون بموجب هذه الآية التنظيميَّة للحياة سببٌ بسيط، هو أن التخلُّف بنيةٌ واحدةٌ، والتحضُّر بنيةٌ واحدةٌ كذلك؛ فهم لا يطبِّقون لا تعاليم دِينهم ولا تعاليم عصرهم، الذي إنَّما يستوردون من حضاراته أسوأ ما فيها، بل قُل: إنهم يقلبون حسناتها إلى سيئات، والسبب بسيطٌ أيضًا؛ لأن التخلُّف بنيةٌ واحدةٌ شاملة.
لقد يؤدِّي بعض أنواع الضوضاء إلى سكتاتٍ قلبيَّةٍ عند مرضى القلب. كما أن للضوضاء آثارها الفسيولوجيَّة الخطيرة. منها التأثير في الدورة الدمويَّة، واضطرابات وظائف القلب، ورفع ضغط الدم، واضطرابات الجهاز العصبي. كما أن كثرة الإجهاد السمعي يعمل على رفع ضغط السائل المخِّي والحَبْل الشوكي. وللضوضاء آثارٌ على أصحاب الأعمال الذهنيَّة والفكريَّة أكبر. وهي من عوامل خفض القدرة الإنتاجيَّة للفرد والتأثير السلبي على الاقتصاد الوطني. وبَدَهي أنَّ ضعف الإنتاج وانخفاضه يؤثِّر في الاقتصاد القومي. ولذلك يجب أن تكون هناك تشريعاتٌ صارمةٌ للحيلولة دون التلوُّث الصوتيِّ في المدن. منها:
- منع استعمال منبهات السيارات.
- حظر تلك السيارات المصدرة للأصوات العالية.
- منع استعمال مكبِّرات الصوت، وأجهزة التسجيل، في الشوارع والمقاهي والمرافق العامة، وبخاصَّة بعد العاشرة ليلًا.
- نشر الوعي عبر وسائل الإعلام ليُدرِك المرء أن الفضاء الصوتي ليس مُلْكًا شخصيًّا لأحد.
- إبعاد المدارس والمستشفيات عن مصادر الضجيج.
- إبعاد المطارات عن الأماكن الآهلة بالسكان.
- يجب أن تكون خطوط القطارات والطرق السريعة بعيدة عن الأحياء السكنيَّة.(1)
والسؤال، في هذا السياق، أين (وزارات البيئة العربيَّة)، التي يطالب الناس بها كثيرًا، ويستبشرون بها أكثر عند إنشائها؟ ألا يدخل ضمن واجباتها حماية البيئة من التلوُّثات السمعيَّة بصورها كافَّة؟! ولا سيما أن الأمر لم يعُد مجرد تلوُّث، بل أصبح شِبْه عدوانٍ صارخٍ على البيئة، إنسانًا وحيوانًا ونباتًا.
** **
(1) انظر حول التلوث الضوضائي، مثلًا، موسوعة «ويكيبيديا»:
https://ar.wikipedia.org/wiki/تلوث_ضوضائي
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify