د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تشيع الرؤية القائلة إن الشعر العربي القديم يدور معظمه حول غرض المديح، أو يمكن القول على وجه التحديد منذ عصر بني أمية، فالشعر في أغلبه يتركز في البلاط سواء كان بلاط الخلفاء أو الأمراء أو غيرهم من الكتاب والوزراء وأصحاب الوجاهات المختلفة.
ويستشهدون على ذلك بأن المديح قد مثل المادة الكبرى من شعر الشعراء الكبار في التاريخ العربي بدءاً بما سمي بالثالوث الأموي، وليس انتهاء بالمداح الأكبر أبي الطيب المتنبي.
وحين نتكلم عن هؤلاء فإننا نتكلم عن زبدة الشعر العربي الذي ملأ كتب تاريخ الأدب، والنقد والبلاغة حتى أصبحوا يمثلون أكبر مساحاته، والعلامات الدالة عليه.
وحين جاء العصر الحديث ونهضت الحركة الرومانسية العربية في نهايات القرن التاسع عشر رأيناها تقف موقفاً سلبياً من هذه الأشعار، بناء على أنها تخالف شرطها (الرومانسية) الفني في الشعر بوصفه وجداناً كما يقول شاعرها، وهو صوت الذات في المقام الأول، مما لا يتوفر عليه هذا الشعر، وعدته من شعر المناسبات الذي هو أقرب إلى النظم منه إلى الشعر، ورأت أن الشعراء يكرر بعضهم بعضاً في هذه القصائد، فمدحة الأخطل لا تختلف كثيراً عن مدحة جرير، أو عن مدحة أبي تمام والمتنبي ما دامت الصفات التي يمدح بها واحدة، والصور البلاغية التي يعبر بها عن هذه الصفات متقاربة في الأغلب.
بل ذهب ابن محمد الغذامي في رائعته (النقد الثقافي) إلى أن هذا الشعر قد تسرب إلى الشخصية الثقافية فطبعها بسمات الفحل، وأدى إلى صناعة النسق الثقافي، وتعميم النموذج الفني (الفحل) ليصبح نموذجاً سياسياً فيأتي بصورة الطاغية، الأمر الذي يعني أنه أسهم في صناعة الطاغية، وكرَّس معاني التوحد والانفراد في الذهنية العربية.
وهذه المواقف من المدح سواء لدى الرومانسيين أو لدى النقاد الثقافيين يتصل في المقام الأول في مدح ذوي السلطان، ومن هم في حكمهم، لكنهم لا يتنبهون إلى إشكالية ثقافية أعمق تتصل بالوعي الجمعي العربي سواء في ذلك النخبة أم العامة، وسواء كان على المستوى الثقافي أم على المستوى الفردي، وهي أن هذه الثقافة (المديح) قد تسربت من أن تكون خاصة بفئة محددة من الناس، وهم أصحاب الأمجاد العظام، والأيادي الطوال الذين يرغبون أن يقيدوا هذا المجد التليد المؤثل على مر الأيام والدهور، وينشرونه بين الناس، فيعمدون إلى الشعراء يستعينون بهم لإكمال هذا المجد، ولإشهار ذلك الفضل، إلى أن تكون سمة خاصة في ثقافتنا المعاصرة يكاد يتساوى بها الجميع حول كل شيء.
فنحن نحب الثناء على عرقنا الذي منحه الله كثيراً من الصفات المميزة له عن الأعراق الأخرى، وثقافتنا بوصفها الثقافة العليا، وتاريخنا المجيد، ولغتنا بوصفها اللغة الخالدة المصطفاة لغة أهل الجنة، تميزت عن سائر اللغات بكثير من الخصائص والسمات، وآدابنا التي لا يضارعها آداب الأمم الأخرى، وعلومنا القديمة المتميزة، وحضارتنا التي كانت السبب في قيام الحضارة الأوربية المعاصرة.
بل لا يكتفي الأمر عند حب المدح والثناء، وإنما يتجاوزه الأمر إلى كراهية النقد كراهية مقيتة، واعتباره أمراً عدائياً تجاه ذاتنا، ووجودنا، وتاريخنا، بل يتجاوز لأن يكون عداء أيديولوجيًا.
ولا يقتصر الأمر في ذلك على القرآن الكريم والحديث الشريف المقدس وإنما يتصل بكل ما يمت بصلة إلى التراث العربي القديم، فيتصل بالفقه الذي هو أحكام استنبطها العلماء استنباطاً، وكذلك أصول الفقه الذي هو قواعد مستنبطة من النصوص أو الفقه أو اللغة، وليس لها قداسة لأنها قابلة للتبدل، بل يتجاوز هذه العلوم المتصلة بالشريعة اتصالاً مباشرًا إلى علوم أخرى كالنحو، والبلاغة فيصنف من يتناولهما بالنقد بالتجريح، والعداء للإسلام، والأمة، ومحاربة فكرها.
وليس بعيداً عنا ما حدث لطه حسين عندما أصدر كتابه (في الشعر الجاهلي)، فعلى الرغم أن الموضوع يتناول قضية علمية بحتة، وهي الشك في نسبة الشعر الجاهلي إلى مرحلة ما قبل الإسلام، أو يمكن القول بالأحرى توسيع دائرة الشك لتشمل عدداً من الشعراء والقصائد لم تكن محل جدل أو ريبة من قبل، فقد ذهبت ردود الأفعال كل مذهب حتى أخرجته من الملة، وحوكم بتهمة الردة عن الإسلام، وكان الأولى أن تناقش في الدوائر العلمية المعنية بها عوضاً عن هذا التحميل الإيديولوجي المتكلف.
ولست أدافع عن طه حسين وأطروحته، بل إنني لا أميل أصلاً إلى موقف ابن سلام في تعميمه الحكم على حماد وخلف وابن إسحاق في قضية الانتحال، وأميل إلى ما ذهب إليه ناصر الدين الأسد في تحميل التنافس بين المدرسة البصرية والكوفية مسؤولية هذا التراشق والاتهام المتبادل، وإنما أرى أن الموقف منه يعكس الموقف من التراث والثقافة في الوعي الجمعي الذي لا يريد أن يسمع إلا كلمة الثناء والمديح، ويعد ما سوى ذلك خروجاً من الجماعة ومروقاً من الدين.
وكما يتصل حب الثناء بالوعي الجمعي الثقافي، فهو كذلك بالنسبة لسواد الناس، إذ تجدهم يحبون المديح في كل شيء وعلى كل شيء، على طريقة ربابة صاحبة بشار وينفرون من النقد، ويعدونه موقفاً شخصياً من صاحبه تجاههم. والسؤال الذي يناسب الختام هنا هو أنه إذا كان هذا حال الأفراد من المديح، وحال الوعي الثقافي والعلمي عند النخب والعلماء، فلماذا إذاً يلام أصحاب السلطان القادرين إذا استقبلوا المداحين إذا كانوا صادقين أو استأجروهم إذا لم يكونوا كذلك، ولماذا يلام الشعراء إذا سعوا إلى التكسب في أشعارهم، ورغبوا في الحصول على الجوائز، وهو هدف مشروع، ويؤدي إلى رفع قيمة الشعراء والأدب في المجتمع وإقبال الناس عليهما؟!.