زكية إبراهيم الحجي
يتميز فن القصص بدوره الفاعل في تأسيس الوعي البشري عبر العصور.. ولا شك أن الغالبية - إن لم يكن الجميع - قد تفتّح وعيها من خلال سماع القصص والروايات والحكايات الشعبية على اختلاف أنواعها.. فمنذ الأزل وقديم الزمن والأساطير تُروى والحكايات تتوارث بين الأجيال.. ففي القصص حِكم وأمثال وقيم أخلاقية.. عِبَر وعظات حكيمة تستنبط منها؛ لتكون نبراسًا للإنسان في حياته.. وهكذا؛ لذلك نجد أن الفن القصصي، سواء كان أسطوريًّا أو دينيًّا أو أدبيًّا أو حتى فنيًّا، يلعب دورًا عظيمًا في تعليم الإنسان، وترسيخ القيم الإنسانية الرفيعة من خلال الدلالات النابعة من القصة أو الرواية مهما كان نوعها.
حي ابن يقظان لابن طفيل قصة لا أملّ من تكرار قراءة فصولها المدهشة؛ لما تحمله بين سطورها من مضامين فلسفية عميقة؛ فهي - بحق - إحدى كلاسيكيات الأدب العربي القديم، ورائعة من روائع القَصص الأدبي الذي جمع بين الفلسفة والأدب والدين والتربية بعبقرية السؤال.. قصة تتميز بتفرد الفكرة، والبراعة في المعالجة، وفاعلية لغة الإيحاء.. نظرًا لتناولها حياة الإنسان، وسعيه بحثًا عن الحكمة «والحكمة ضالة المؤمن؛ أنَّى وجدها فهو أحق بها». هذا إلى جانب لغة السرد والخيال الأدبي والفلسفي الذي جاء في غاية الدقة.
ولعل الدوافع التي حملت «ابن طفيل» على صناعة القصة قالبًا لأفكاره الفلسفية ما تبيّن له ولغيره من الفلاسفة في كون الأعمال الفنية مادة طيّعة قادرة على تفسير ونشر أفكارهم الفلسفية.. إلا أن الدافع الأهم الذي ألهمه لكتابة هذه القصة المدهشة هو السؤال العبقري الذي تمحور حول أصل المعرفة الإنسانية.. سؤال أثار وحفز عبقرية ابن طفيل؛ إذ تجلت إشراقاته الفلسفية بإبداع عبقري، وتشكلت الإجابة بعد فيض من التأمل.
يصف ابن طفيل حالة الإشراق الذي اعترته لحظات التأمل قائلاً: «وانتهى بي هذا السؤال إلى مبلغ من الغربة بحيث لا يصفه إنسان.. ولا يقوم له بيان غير أن تلك الحال لما لها من البهجة والسرور والحبور.. لا يستطيع من وصل إليها، وانتهى إلى حد من حدودها، أن يكتم من أمرها شيئًا، أو يُخفي سرها.. بل يعتريه من النشاط والمرح والانبساط ما يحمله على البوح بها مجملة دون تفصيل».
العديد من الفلاسفة والرواة القدامى استنبطوا أبعاد الفكر الفلسفي لقصة «حي ابن يقظان»، وكتبوا على منوالها.. ولعل أشهرهم الكاتب النثري والروائي الإنجليزي «دانيال ديفو»؛ فقد كتب رائعته «روبنسون كروزو». ويبدو أنه استلهم البنية الحكائية والتصويرية والأسئلة المعرفية لقصة ابن طفيل، وذلك حسب ما ذكره بعض من النقاد.
وتبقى قصة حي ابن يقظان بأبعادها الفلسفية وأسئلتها العبقرية بمنزلة الرواية العربية الأولى التي ألهمت أدباء الغرب.. ابن طفيل في قصته سلك طريق البحث والاكتشاف للارتقاء بالفكر الإنساني، واستخلاص الحكمة معتمدًا على السؤال.