أحمد عبدالعزيز الجنيدل
ربما القليل يتذكر أن اليابان وليس الصين كانت هي المنافس التجاري الأول للولايات المتحدة، فقبل الصين كانت اليابان هي الدولة التي تُتهم بـ»سرقة» وظائف الأمريكيين وهي التي تستغل مبدأ الاقتصاد الحر للترويج لبضائعها في الولايات المتحدة لكي تغلق أبواب أسواقها في وجه السلع الأمريكية وهي الدولة التي خلال سنوات سيتفوق ناتجها المحلي الإجمالي على الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. كان النمو الصاروخي للاقتصاد الياباني في النصف الثاني من القرن العشرين باهرًا للجميع وكانت السلع اليابانية تغزو العالم والمستهلك الأمريكي وقع في غرام السلع اليابانية، والمصانع الأمريكية بدأت تعاني. قررت إدارة رونالد ريغان - الذي كان للمفارقة الرائد الأبرز للسياسات النيوليبرالية ومبدأ عدم تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد- التصدي للاقتصاد الياباني. كان أحد الأسباب التي جعلت اليابان قادرة على تصدير سلعها بهذا الحجم بينما الولايات المتحدة عجزت عن ذلك هو سعر الصرف الرخيص للعملة اليابانية «الين» وسعر الصرف العالي للدولار الأمريكي، وكانت الولايات المتحدة تشير إلى أن سعر صرف الين الياباني غير عادل وأن الحكومة اليابانية تتلاعب في سعر الصرف كي تدعم صادراتها في الأسواق العالمية (ومن المعروف أنه في حال كان سعر عملة الدولة المنتجة للسلعة رخيصًا فإن سعر السلعة سيكون رخيصًا في الأسواق العالمية). اليابان كانت تعد الولايات المتحدة شريكًا أمنيًا وإستراتيجيًا، لذلك قررت أن تضغط على المكابح لتخفيف سرعة نموها الاقتصادي حتى لا تتوتر العلاقة بين البلدين، ووافقت على توقيع اتفاقية «أكورد بلازا» التي نصت على أن تبيع اليابان (مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا) جزءًا من احتياطاتها التي بعملة الدولار (وبذلك ينزل سعر صرف الدولار) ويتم توزيع احتياطيات هذه الدول على سلة عملات مختلفة من بينها الين الياباني والمارك الألماني وبذلك يتم زيادة سعر صرف عملات هذه الدول. وفعلاً، تضاعف سعر صرف الين مقابل الدولار 50 في المائة بعد توقيع الاتفاقية. وأيضًا قامت الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية على كل السيارات اليابانية حتى تنقذ مصانع السيارات الأمريكية. انتعش الاقتصاد الأمريكي مجددًا، وانتصرت أمريكا في حربها التجارية، لكن اليابان دخلت فيما سمي فيما بعد «العقد الضائع» الذي لم تحقق فيه اليابان أي نمو في الناتج المحلي الإجمالي، بل تراجعت فيها (القيمة الفعلية)لناتج المحلي الإجمالي. بتوقيعها الاتفاق تكون اليابان تخلت عمليًا عن حلمها بأن تكون الدولة الأعلى في الناتج المحلي الإجمالي.
هنالك تشابه بين الحالة اليابانية والحالة الصينية، الأولى أن كلاهما شكلا تهديدًا لهيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، ثانيًا: إنهما فعليًا اعتمدا على ضعف صرف عملاتهما المحلية في تضخيم صادراتهما وأنهما تلاعبا - على الأرجح- بسعر صرف عملاتهما ليبقى ضعيفًا، وأخيرًا شكَّل السوق الأمريكي منطقة خصبة لتحقيق نموهما الاقتصادي.
لكن هنالك عدة اختلافات تجعل طبيعة الحرب التجارية بين أمريكا والصين مختلفة عن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان. الأولى، أنه بحلول الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان، كان اليابانيون أغنياء وكان بإمكانهم التضحية بمزيد من الازدهار وأن يحافظوا على وضعهم. لكن الصين بالمقابل يشكِّل النمو الاقتصادي ضرورة لها لأن الفقر ما زال منتشرًا جدًا والنمو الاقتصادي هو الطريق الوحيد لتقليص رقعة الفقر في الصين. الأمر الآخر المهم هو أن اليابان كانت دولة حليفة وشريكًا إستراتيجيًا للولايات المتحدة ورؤية البلدين نحو الأمن القومي كانت متحدة، بينما الصين على العكس تمامًا فهي ترى الولايات المتحدة تهديدًا لها. ثالثًا، اليابان لم تكن تستورد سلعًا كثيرة من الولايات المتحدة وبالتالي لم تكن تستطيع إلحاق الضرر بالولايات المتحدة عن طريق فرض رسوم جمركية على السلع الأمريكية ردًا على الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة. لكن الصين تستورد سلعًا وازنة من الولايات المتحدة وبإمكانها فعلاً إلحاق الضرر بالتجار الأمريكيين (خاصة فئة المزارعين). الأكثر أهمية أن جزءًا من مشكلة الولايات المتحدة مع الصين هي أن الشركات الأمريكية - مثل أبل- هي التي قررت نقل مصانعها إلى الصين وتركت الولايات المتحدة، فحتى لو نجحت الولايات المتحدة بجعل هذه المصانع ترحل من الصين فإنه ليس هنالك ما يجعلنا نعتقد أنهم سيقررون العودة للولايات المتحدة بدل إنشاء مصانع لهم في دول تقدم لهم عمالة رخيصة مثل فيتنام (وهم يفعلون ذلك الآن).
في النهاية، الحرب التجارية بين الولايات المتحدة واليابان انتهت لصالح الولايات المتحدة لأن اليابان قررت طوعًا أنه ليس من صالحها خوض حرب تجارية ضد الولايات المتحدة شريكها الإستراتيجي والأمني الأول، لكن الحرب التجارية مع الصين هي أشد ضراوة والصينيون يتسمون بالصبر وطول النفس وهم مستعدون لخوض الحرب التجارية حتى آخر دولار لديهم.