علي الخزيم
تنطلق إلى المقبرة لتشييع فقيد عزيز، وبعد الدخول تتوجه تلقائيًّا لمكان تجمع بشري، تراه يمينًا أو شمالاً، وحينما تقترب تترجل من السيارة، وتكمل على الأقدام؛ لتبدأ البحث والتطلع بين الوجوه لمحاولة التعرف على أحد المشيعين؛ علَّه يكون ذا صلة بالفقيد؛ لتعرف أنك أمام القبر المقصود؛ إذ لا دليل على ذلك غير الوجوه المألوفة، وهم قبلك اتبعوا الطريقة ذاتها. وإن كان المتوفى طفلاً فعليك البدء بمشوار جديد؛ لأن الأطفال يدفنون بجهة مخصصة لصغار العمر، وهو إجراء تنظيمي متبع بمقابر النسيم بالرياض، ولا أعرف إن كان بكل المقابر. ومنذ زمن لم أشاهد لوحات تدل على اتجاه مكان دفن الوفيات بكل يوم.
حين تصل لـ(بغيتك)، وهو المكان المقابل لقبر الفقيد، تحاول بصعوبة التعرُّف على الأشخاص المحتشدين للتشييع؛ لأن الغالبية إما متلثم بغترته، أو يضع نظارة شمسية على عينيه بحجم يغطي ثلث وجهه، أو بكليهما؛ فكيف تعرفهم؟! رغم أن منهم من عرفك لأنك لم تتلثم، وإذا كنت حصيفًا وعرفت (من لا يريد المعرفة) من حركاته وشكل جسمه، وبادرته بالسلام، يهمهم بالترحم على الميت لئلا يدخل بثرثرة تنبه الآخرين لوجوده. فمن التجارب أفهم أن هناك مَن يأتي لمجرد تسجيل الحضور لتحاشي اللوم، وهم ليسوا على استعداد لمزيد من بروتوكولات العلاقات العامة، أو يتخذون أماكن قصيّة لحين لحظة عزاء أهل المتوفّى بجانب القبر، ثم الانطلاق وكأنهم كانوا في قيد شديد!
لا تستغرب أن تشاهد من يضع (بشته) على يده اليسرى بالمقبرة، وانعزل مع آخر، ويتحدثان بأمور لا علاقة لعزرائيل بها، ويتمسكان بالنظارة الشمسية ذاتها، ويلويان رقبتَيْهما كلما لمحا أحدًا من الحضور ينظر إليهما، وكأنهما ينفران ممن يسمونهم الرعاع أصحاب الفضول والبصبصة الخفية (البصبصة عربية فصيحة). مثل هؤلاء هم من يأتون مشيعين وكأنهم يقادون للجحيم، يكرهون هذه المواقف، وتأنف أنفسهم المشاركة بها، بل منهم من يرى أنه فوق هذا الاعتبار والمستوى من المشاركة، لكنه ينسى أنه يومًا سيكون من سكان هذه الأجداث.
إن كنت من المقربين جدًّا لأهل الميت، وتوجهت بعد الدفن لمنزلهم لحضور مراسم العزاء، فإنك (قد) - وقد هذه شبه مؤكدة - تسمع بدايات أحاديث الحضور السطحية؛ لأنهم غالبًا غير متجانسين بكل أحوالهم العمرية وغيرها. وبعد نزر من الترحم المعهود تأتي البدايات لتكسر أجواء الخشوع، وكإرهاصات للكلام المباح بغير هذا المقام عادة، كأن يمازح أحد الشباب شيخًا مسنًّا بأنه يلزمه الزواج من فتاة تعيد شبابه؛ لتبدأ الضحكات وشجون الحديث تتشعب؛ ليدخل المجلس بأجواء الاستراحات أنصاف الليالي بعد الدسم وما تيسر من فواكه الصيف، ويتناسون أنهم بمجلس عزاء لفقيد لم يجف ماء قبره بعد! فبدلاً من (تأبين الميت) تحولوا لمحللين للطقس والحالات المطرية، وهدف الشلهوب الموهوب، وأسعار أفخر أنواع الرز، وصولاً إلى زواج المسيار وما يحيط به من دعابات وقصص مسلية، ولاسيما لمن تغشَّاهم خريف العمر.
(حوض هنالك مورود بلا كذب *
لا بد من ورده يوما كما وردوا).