فوزية الجار الله
ثمة حقيقة نكاد نتفق عليها جميعاً دون استثناء، وهي أننا لا نشعر بقيمة بعض ما يحيط بنا من مقتنيات وممتلكات سوى حين نفقدها، فعلى سبيل المثال، ثوبك يشعرك بالدفء لكنك لا تتأمله طوال الوقت ولا تتفقد لونه وملمسه، بل إنك تنساه تماماً في غمرة انشغالك بأمور خرى، لكنك حين تلقيه عن كتفيك ذات شتاء، قد تجتاحك قشعريرة برد، عندها تتذكر بأنه كان سبباً لإحساسك بالدفء، وهكذا يحدث مع كثير من المشاعر الإنسانية الأخرى..
لم أقترب كثيراً من تلك السيدة الجميلة، لكنني لم أستشعر طعم الحياة بدون صوتها الذي كان ينسكب حانياً مستعطفاً خلال فترات متباعدة زمناً، لكن صداها لا يزال حاضراً في القلب والذاكرة، صوتها يأتيني بعد فيض من الكلمات الاحتفائية والترحيبية قائلة: نريد إذناً، وقبل أن أستفسر حول ماذا؟ تضيف على عجل، «نريد الوالدة أن تبقى الليلة معنا»، تقول ذلك وأشعر بأن كلماتها محفوفة بابتسامة صادقة، تنتهي المكالمة بمنتهى اللطف والترحيب والامتنان المتبادل، فلست أنا من يقدم إذناً لأمي بأن تبقى وقتاً أطول مع جارتها وصديقتها وليس بيننا سوى حائط واحد..
هي الجارة الحبيبة والإنسانة اللطيفة التي تبدو في حياتها مثلما شجرة وارفة، فقد رحل الزوج باكراً وترك لها تسعة أبناء وبنات أكبرهم في الرابعة عشرة من عمره، احتوتهم وحدها واعتنت بهم وكافحت لأجلهم حتى رأت أحفادها يملؤون المنزل بضحكاتهم وشقاوتهم، تجاوزت علاقتنا الخمسة وعشرين عاماً، أطفال الأمس كبروا وأصبحوا رجالاً ونساء، أمهات وآباء.
أصبح ثمة تناغم بين العائلتين، أبناء الجارة وبناتها - خاصة - أصبحوا ييتهجون لمرأى والدتي، تشرق ملامح وجوههم، يهتفون فرحاً، كأنما هي أم أخرى لهم..
لم تعد صحتها كما كانت سابقاً، زاد تردادها، ما بين المنزل والمستشفى في السنة الأخيرة، حتى جاء ذلك اليوم الذي رأيت فيه وجه أمي ممتقعاً وهي تمسك بالهاتف، حين سألتها أخبرتني بتلك الفاجعة وقد سبقت دموعها كلماتها..
رحلت إلى ربها، تلك المرأة الطيبة، الشجرة الوارفة، تركت خلفها قلوباً ملتاعة تذكرها وتدعو لها، هي ابنة أحمد في بطاقة الأحوال، ويدعوها جاراتها والآخرون (أم سعود) وأدعوها أنا سيدة الحنان..
بعد رحيلها أحسست بأن ذلك الجدار الفاصل بيننا قد تحول في لحظة إلى جدار من شوق وحنين، فكم شهد ذلك الجدار ابتسامات وكلمات وأحداث سعيدة وحزينة ولله رحمة نسألها صباح مساء أن تغمرنا دفئاً وسكينة.
وداعاً يابنة أحمد، وداعاً سيدة الحنان.
* * *
تلويحة: تصادف هذه الأيام مناسبة مهمة، هي يوم الاحتفاء بتوحيد هذه البلاد، كل عام وأنت بخير ياوطن الخير والحب، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مستقراً شامخاً واحفظه من كيد الكائدين.