د.عبد الرحمن بن راشد الشملان
على مدى الثلاثة العقود الماضية على الأقل ظلت المملكة مستهدفة من قبل الخصوم والأعداء من أجل استنزاف قدراتها وأمنها واستقرارها. وفي البداية تجلى هذا الاستهداف في ظهور حوادث الإرهاب في داخل المملكة وتبريره في مقولات مغرضة، في الوقت الذي صاحب هذه الحوادث حملات إعلامية مخططة من أطراف عديدة إقليمية ودولية، من أجل تشويه سمعة المملكة ومكانتها. ولم يلبث هذا الاستهداف أن تزايد بقوة في هذا العقد خاصة بعد انهيار كثير من الدول المهمة وانكشافها... إلخ. مثل العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا والجزائر. وقد ينطبق قليل من هذا التوصيف على مصر وتونس في تلك الفترة. ولعل هذا الاستعراض يوضح بجلاء أن المملكة تكاد تكون الدولة الوحيدة المهمة التي ظلت متماسكة وبمنأى عن تلك الزلازل العنيفة مما جعل أعداؤها وخصومها يركزون على استهداف المملكة بصورة غير مسبوقة.
وعمومًا، وبالرغم من كل هذه الضغوط ظلت المملكة صامدة، قيادة وشعبًا، ولم تساوم أو تتنازل سواء عن ثوابتها ومصالحها الحيوية أو قضايا العرب المصيرية. وبدون شك فإن حرص المملكة على مصالحها الوطنية والعربية كثيرة، فنحن الآن على مفترق طرق خطيرة في هذه المرحلة التاريخية مما يستوجب التركيز على قضيتين: الأولى مقاومة العدوان الإيراني وإرهابه الذي هو بمثابة إعلان حرب في طبيعته، والثاني الدفاع عن الحقوق الفلسطينية في فلسطين المحتلة ضد النظام الصهيوني. وفي ضوء هاتين القضيتين القائمتين حاليًا، أرى ضرورة تبني وسائل عاجلة لدرء هذه الأخطار، وإن كنت أجزم أن هذه الوسائل وغيرها ليست غائبة من رؤية ذوي القرار. فمن ناحية أولى الدعوة إلى مؤتمر عربي عاجل وطارئ للجامعة العربية من أجل استنهاض رؤساء الدول العربية وتثبيت موقف قوي وموحد في العمل الدبلوماسي والسياسي والدولي تجاه القضيتين. ومن ناحية ثانية التنسيق المتواصل مع دول الاتحاد الأوربي والاتحاد الإفريقي ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرها في المجتمع الدولي من أجل اتخاذ موقف مناهض ضد العدوان الإيراني والإجراءات الصهيونية في فلسطين، وذلك طبقًا لميثاق الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن الملزمة، وكافة القوانين ذات الصلة في علاقات المجتمع الدولي.
وحسب العادة، تنعقد الدورة السنوية المهمة (الدورة الرابعة والسبعون)، للجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر من كل سنة، وتستمر لما يقارب الشهرين تقريبًا، حيث تناقش كثيرًا من الجوانب والمشاكل التي تعاني منها الدول والمجتمع الدولي عمومًا، ثم تصدر الجمعية توصيات وقرارات إما بالإجماع أو بالتصويت. ولهذه الأهمية الاستثنائية تحرص الدول جدًا على المشاركة ليس فقط بوفودها الدائمين، بل بحضور رؤسائها ووزراء خارجيتها من أجل شرح مواقف حكوماتهم وسياستهم والعمل على الإقناع فيها دبلوماسيًا وسياسيًا بما يخدم مصالحهم. وهنا ومن باب الأولوية يجب التركيز على هذه الدورة خاصة من جانب المملكة من أجل استثمار هذه المناسبة والمتزامنة حاليًا مع الشأن السعودي أولاً والفلسطيني ثانيًا، وذلك في التنسيق الفاعل دبلوماسيًا وإعلاميًا، وذلك في تعرية العدوان الإيراني وإرهابه، بصفتها دولة إرهابية مارقة عن النظام الدولي من جهة، وأيضًا شجب وعدم الاعتراف بكافة الإجراءات الصهيونية في فلسطين المحتلة من جهة ثانية.
وإذا تضافرت الجهود فإن المملكة تستطيع بالنهاية من صياغة قرارين مؤيدين من الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد إيران والكيان الصهيوني. وكما أتوقع أن يصدر القراران بأغلبية الأصوات من الجمعية، خاصة أن الأعضاء الخمسة في مجلس الأمن لا يحق لهم استعمال الفيتو في أعمال الجمعية العامة. علاوة على هذا، في نفس الوقت من المصلحة الدبلوماسية والسياسية أن تتبنى المملكة اقتراح قرارين ولكن بصياغة مختلفة أخرى وطرحها للتصويت في مجلس الأمن فيما يتعلق بإيران والكيان الصهيوني. ومن يدري قد تنجح هذه المحاولة، ولكن لا بأس حتى إذا لم تنجح، فإن المهم يتمثل الضغط على مجلس الأمل المسؤول الأول عن قضايا الأمن والسلم الدوليين وإحراجه بدرجة رئيسة، وكذلك الكشف عن زيف ونفاق بعض أعضائه.
وعدا عن العمل الدبلوماسي والسياسي قد يصح القول إذن أنه ما دام أن الحوثيين يصرون بغبائهم على مسؤوليتهم في هجمة الشيبة وبقيق وخريص فإن هذا يعطي الحق للمملكة كاملاً لأن تضرب الحوثيين ضربات قوية مستمرة بلا رأفة وهوادة، ولا يستطيع المنافقون من عرب وأجانب من إدانة المملكة في الدفاع عن نفسها. ومن الملاحظ أنه حتى القيادة الإيرانية لم تكن تتوقع ردود الفعل القوية ضد عربدتها، مما أصابها بالذعر وصارت أخيرًا تدعي بلسان روحاني وظريف على أن الهجمات جاءت من اليمن، والأكثر أنها بعثت رسالة خاصة عن طريق الحكومة السويسرية إلى الحكومة الأمريكية محاولة تبرأة التهم عليها. وذلك بدلاً من الصمت تارة والإنكار تارة أخرى في البداية. وبعبارة أخرى فإن إيران تقر بأن المسؤولية الأولى لهذا العدوان يقع على الحوثيين، من أجل أن تتخلص من أية عواقب ومسؤولية.
وأخيرًا، وبكلمات موجزة لا يوجد في السياسة صداقات ولا عداوات دائمة، وإنما أولوية صيانة المصالح العليا والحفاظ عليها حسب متغيرات الظروف. وفي ظني أن الظروف المستجدة تستوجب قيام المملكة بمراجعة علاقاتها الخارجية وإعادة تقييمها مع بعض الأطراف ذات الصلة، سواء كانت تعتبر صديقة أو حليفة أو خصومة وعداوة مهما كانت معاناة هذه التكلفة في هذا الوقت الحرج. وهذا الأسلوب ليس بدعة جديدة وإنما تلجأ لها الدول بما في ذلك الدول القوية الكبرى. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فكما أعرف فإن الولايات المتحدة هددت الكيان الصهيوني، حليفها الإستراتيجي وربيبها، بمراجعة العلاقات معه إذا لم يتوقف فورًا عن العبث في السياسية الأمريكية وتوجهاتها في المنطقة وذلك في عهد كل من جيرالد فورد عام 1975م وجيمي كارتر 1977م، وجورج بوش (الأب) عام 1991م.
أما فيما يتعلق بإيران خصوصًا في السياق المذكور أعلاه، فإنه من المتوقع جدًا أن تتعالى الأصوات من بعض الدول -أجنبية وعربية- التي سوف تنصح بضرورة الحوار والوساطة بين إيران والمملكة خاصة وكذلك دول الخليج، وتسويغ هذا الطرح بتبريرات حكم الواقع ومواجهة التعامل معه. وأيًا كانت النيات حسنةً أو سيئة في الغالب، فإنه يجب سد كافة الأبواب لهذه الأصوات وعدم الإصغاء لها، لأن إيران في النتيجة سوف تعتبر القبول بهذا الطرح انتصارًا وإذعانًا لها من المملكة والآخرين. كذلك يجدر التأكيد أن الحوار والوساطة في الأزمات بين الدول لا تنجح إلا إذا توفرت لها عوامل موضوعية؛ مثل تكافؤ عناصر الردع والقوة بين الطرفين إلى حد كبير، إضافة إلى مصداقية النية والاستعداد إلى تقديم تنازلات جوهرية. وبدون شك فإن عناصر الردع والقوة لدى المملكة أقوى من إيران كثيرًا، ولكن رغم هذا فإنها سوف تحتاج بعض الوقت من أجل توظيفها بفعالية سواءً مع إيران ذاتها أو وكلائها في المنطقة، والله من وراء القصد.
** **
أكاديمي متقاعد