إبراهيم بن جلال فضلون
هي الحرب إذن تدور وقائعها الخفية تحت الطاولات؛ ليظهر فوق الأمواج سرابيلها من غربال مشقوق، ليس لها مدى زمني لإيقافها. فمن السهل إعلان حرب بفصولها الدموية المرعبة، والمتعددة أياديها، الملوثة بجراثيمها العنقودية وأذرعتها الإرهابية في كل مكان وزمان، مما يصعب إيجاد آليات تلملم أوزارها المتناثرة بأشلاء الأبرياء إلا بترها.
حروب تتنوع، وعجزت كل المفاهيم والمصطلحات عن إيجاد اسم بديل لها، وآثارها تكاد تقترب من حصاد حرب عسكرية مسلحة، قادرة على شل حركة نمو اقتصادي، يجر المجتمعات الكبرى إلى أزمات مالية أو معيشية، تنهار بتصعيدها قواعد الإنتاجية، وترفع أسهم البطالة، وتغلق أسواق العمل أبوابها؛ فكل القطاعات تستنزف قدراتها، وتخسر معظم وارداتها، وها هم المنتجون يتحملون أعباء تكاليفها الباهظة، ومنتجاتهم تتعثر في طريق تسويقها، بضرائب خيالية، لا قِبل للمستهلك أو المنتج قدرة على دفعها؛ لتلقي بظلالها السلبية بحروب من نوع دموي، له وقع اجتماعي وسياسي، وربما عسكري، من جراء صراع القطبين الأمريكي والصيني بالمنطقة؛ كونهما اللاعبَين السياسيَّين المتحكمَين بمصير أكبر تجارة عالمية، وفشلا في إيجاد مقاربة تحسم تلك الحرب المتصاعدة، وضررها على مليارات المستهلكين في البلدين و170 دولة في أنحاء العالم. ولعل حروب ترامب التجارية أذكى من حروب بوش الابن العسكرية؛ فهو ينتزع عصب القوة الاقتصادي من معسكرات خصومه دون الحاجة لسلاح البنتاغون! ثم صراعات أمريكية - روسية أهالت علينا دمًا بمنطقتنا.
عفوية اعتاد عليها العالم، وصارت قاعدة لرصد ملامح السياسات الخارجية، بما فيها من ظرافة تلقائية، وكذلك غلاظة مزعجة، كما في تعليقات ترامب مصوبًا أسهم السخرية تجاه حلفائه الأوروبيين، ويحلق في «مسجاته» نحو الصين وإفريقيا ملوحًا باللوم لتقاعس هذه الدول، ويختتم عادة بالثناء على إسرائيل وديمقراطيتها وترابطها مع أمريكا. أما الخليج فنصائحه احتلالية؛ كونها من الدول المستوردة كبروناي. إذًا لا التزام سوى بحسابات الربح والخسارة، ولا هدف سوى الكسب؛ فلا ولاء لضوابط عمل إلا بسرعة التحرك لقنص الفرص وحصاد الأرباح.
لقد كانت نيويورك موقع الثروة والقوة؛ وبالتالي حفظ الأمن والسلم الدوليَّين، ومعالجة مواقع التوتر عبر دبلوماسية مجلس الأمن بالقوة إذا فشل الحوار، كما حدث في عام 1951 في كوريا، وفي 1956 بالسويس، وتحرير الكويت، وفي الكونغو.. لكنها اليوم فشلت بالتخلي عن مسؤولياتها تجاه الميثاق، وضحّت بموقعها المتميز، كما نراها الآن في بحر الخليج؛ إذ تستفيد إيران من تصريحات ترامب بأنه غير معني بواقع الخليج؛ كون دول الفائض تملك الوسائل. كيف وهناك ثروات أمريكية سياسية ومادية واستراتيجية على تراب دول مجلس التعاون؟ كما أن الحلفاء المقربين من واشنطن - وهم اليابان وشرق آسيا - يعتمدون على نفط الخليج؟ وهذا التداخل في المنافع يشكّل أحد أعمدة الأمن العالمي.
في حين يتعنت الإيراني بشرط للحوار، وهو إبعاد الوجود العسكري الأجنبي عن مياه الخليج، حاملاً انعدام الجدية، ومتجاهلاً البُعد الدولي والمصالح العالمية بالمنطقة، بل لواقع الخليج الذي يصدِّر 40 % من احتياجات العالم من الطاقة، وما يمثله من مكانة استراتيجية، يسهم العالم في استقراره والحفاظ عليه؛ فلا يمكن للولايات المتحدة أن تتحرر منه.. بل يصر الملالي على المقامرة غير آبه بشعبه، طالما امتلك المليارات، وما يكفيه وأحفاد أحفاده إذا هربوا من بلدهم المحترق..
إنه غباء مطبق، يسوقها إلى الشر، وقد اقتربت ساعته، وهم لا يتوقفون عن الدوران حول أنفسهم، ونشر ريشهم فرحين بأجنحة لم تختبر قدرة الطيران. ألم يكن الشاه حليفًا لواشنطن، حمته يومًا، وتخلت عنه؟!! فكما سهلت مع حلفائها الغربيين وصول الخميني ضمن سياق الحرب الباردة ستعمل على تقويض نظام ولاية الفقيه في يوم عاجل أو آخر آجل. فالحرب شر عظيم مطبق، والمحظوظ من يجد له طريقة لمنعها، وتعديل العود بذاته لتلافيها؛ فهي ليست نزهة برية، نتائجها وخيمة، تحرق بوجهها الملتهب الدموي كل جميل في الأرض.