د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أشرت في مقالة سابقة إلى أن «النص» نوع من الكلام، يحوز قيمة عالية لدى المتلقين، يميزه عن سائر الكلام؛ فهو في الأصل كلام ثم أصبح نصاً، وهذا يعني أن الحالة التي يصير بها الكلام نصاً هي حالة حادثة بعده (الكلام)؛ فهو يبدأ كلاماً أو قولاً ثم يتحول إلى نص بناء على تلقي الناس له، والإطار اللغوي الذي يضعونه فيه. ومن هنا فإنني حين أقول ما قبل النص فإنني أقصد المرحلة التي يكون فيها الكلام كلاماً مجرداً قبل أن يتحول إلى نص.
وهي مرحلة زمنية في المقام الأول، تتصل بصلة الكلام بالمتكلم عوضاً عن المتلقي، وبالكلام الخام مجرداً من المتكلم، وقبل أن ينتقل تأثيره إلى المتلقي، فالكلام في هذه المرحلة قد يكون حواراً، وقد يكون حجاجاً، أو حديثاً عاماً في محفل (خطبة)، أو حديثاً علمياً في جماعة (محاضرة)، أو كلاماً مرجعاً يقطعه صاحبه وفق نغم معين (أغنية).
واندراج الكلام داخل الأصناف المعروفة لدى الناس يكسبه القيمة، ويمنحه جواز عبور إلى الكلام العالي (النص)، في حين أن مجيء الكلام على غير ما اعتاد الناس من أنواع القول لا يجعله محل اهتمام، وعناية واعتبار.
فالحديث في الطريق مع أحد المارة، أو الجدل مع البائع حول جودة سلعته أو قيمتها، أو سبب تأخير موعد تسليم البضاعة، وغيرها من الأحاديث اليومية التي تدور في مجالس الناس العاديين، ويمارسونها في حياتهم، لا يمكن أن تعد من النص في شيء عند أغلب أهل النظر (كما يقول القدماء)، ولا أن تعد في الحديث الذي ينبغي أن يؤبه له.
والذي يبدو أن هذه الأحاديث تشترك فيما بينها بأنها أحاديث آنية، تفقد قيمتها بانتهائها، وتتحدد تلك القيمة بوظيفتها إما التواصلية المجردة في حالة الطريق أو السوق، وإزجاء الوقت في حالة الحديث في المجلس، لا تحتوي على قيم موضوعية معينة، أو تنطوي على أساليب تبعث على الانتباه والاهتمام، وتستحق العودة إليها مرة أخرى، والمتحدث فيها لا يطمح إلى أن يتجاوز تلك الساعة التي جمعته بالمستمع إلى ما وراءها، أو أن يحمل كلامه أكثر من معنى.
فالوظيفة التي يقوم بها الكلام هي مدار الأمر في النظر إلى هذه الأنواع من الكلام. والأظهر أنها وظيفة وقتية، تنتهي بانتهاء المقام والموقف الذي استدعاه؛ وهو ما يجعل استدعاءه مرة أخرى ضرباً من السخف، بخلاف أنواع من الحديث أو الجدل حيث نجد اللاحقين يعنون بتدوينها، وإعادتها، وجعلها مجالاً للنظر كما في المسامرات التي أوردها أبو حيان في الإمتاع والمؤانسة، أو المقابسات، أو غيرهما من الكتب، أو أخبار مجالس الخلفاء كما في كتب الأدب القديم.
واستدعاؤها مرة أخرى للنظر فيها يعني أن وظيفتها في المرة الثانية قد اختلفت؛ وهذا ما يجعلها تخرج من إطار (الكلام) لتلحق بالنصوص، سواء أكانت أحاديث عامة أو غيرها.
والاستدعاء يأتي على وجوه، منها الاقتباس في الكتب المؤلفة، أو في معرض الحديث أو الاستشهاد بها أو التمثل، أو أن تكون هي موضوعاً للدرس والشرح، أو مطلق التقييد والرواية كما هو في أخبار العرب القدماء وقصص الأمثال، وكأنه نوع من إعادة التدوير والإنتاج للكلام في موقف آخر، يدل على أنه (الكلام) يحتوي على شيء لفت انتباه أحد، أو يمنحه وظيفة أخرى غير الأولى.
بيد أن هذين العنصرين (الوظيفة، والاستدعاء) لا يقتصران في تمييز الكلام على ما ذكرته آنفاً من المواضع، بل إنهما ليسهمان في تمييز (الكلام) من أنواع القول المعروفة التي تسمى أنواعاً أدبية من غيره من الكلام الذي يعد في النصوص الأدبية، فالشعر حين تكون وظيفته آنية في الإنشاد أو التخاطب، ولا يحفل بما يجعله متجاوزاً هذه الوظيفة، ودافعاً على استدعائه مرة أخرى بأي صورة من الاستدعاء، فإنه ينحط من منزلة النص، وينحصر في دائرة (الكلام).
ومثل ذلك الخطبة حين لا تتجاوز شفتي الخطيب، وتظل تتردد في جنبات المقام، ولا سامع أو مجيب، ثم لا تلبث أن تكون نسياً منسياً، فإنها لا تتجاوز مرحلة الكلام، وتظل في دائرته، وكذلك الرواية التي لا تلقى عناية من قِبل القراء والنقاد، وتكون محجوزة في الرفوف أو الأدراج أو المستودعات.
والوظيفة لا يقصد بها النفعية؛ فالنفعية سواء كانت في الأدب أو الفكر والفلسفة مفهوم يتجاوز أحاديث التواصل اليومي إلى ما هو أبعد منه، التي في الغالب أقل من أن توصف بذلك. ويمكن أن أضرب مثلاً بالأبيات المشهورة المنسوبة لبشار بن برد، وفيها يقول:
ربابة ربة البيت
تصب الخل بالزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
فالدارسون مجمعون على أنها من الشعر الغث البارد الذي لا قيمة له، ولكنهم يوردونها للاستشهاد على فطنة بشار وذكائه، ومعرفته بالشعر ومقامات القول، وهو ما لم يجعلها تتجاوز درجتها من الكلام لتصبح نصاً ذا قيمة إلا بوصفها نماذج على الشعر البارد كغيرها من النماذج الأدبية التي تتردد في كتب البلاغة والنقد للغاية نفسها.