منذ انقسام المجتمع البشري إلى أسياد وعبيد إبّان النظام العبودي (حوالي 3000 سنة ق.م) لم ينفك هذا الانقسام قائماً حتى يومنا هذا. وبالرغم من أن الإسلام وضع نهاية للنظام العبودي إلا أن العبودية استمرت كممارسة. فتاريخيًّا هناك «عبيد» يصنعون الثروة، و«أسياد» ينهبونها. ولكن ما يهمني من هذا السيناريو ليس «استغلال» الإنسان للإنسان اقتصادياً، إنما ما ترتب على هذا الاستغلال من تغيرات في المحتوى الإنساني ذاته.
الحقل الأول من حقول المحتوى الإنساني هو «العمل الجماعي»؛ فالإنسان البدائي أيقن أن العمل الجماعي يجعله آمناً من الضواري، ومنحه القدرة على الصيد وجمع للثمار البرية بشكل أوفر؛ وهو ما يوفر له الفرصة للتكاثر والنمو والتطور المطرد.
الحقل الثاني للمحتوى الإنساني هو المجتمع؛ فلا يمكن أن ينشأ فرد «إنسان» خارج المجتمع؛ حيث إن اللغة والتفكير والفن وغيرها من العناصر التي تميز «الإنسان» عن سائر الكائنات تنشأ بالأساس من التواصل بين الأفراد من أجل إنجاز ذلك العمل الجماعي. وعلم الاجتماع يشير إلى أن تطور الطفل منذ ولادته حتى امتلاكه الوعي يعيد عملياً كيف تطورت المجتمعات البدائية. وفي تلك المجتمعات لم يكن أي فرد عبداً لأحد ولا سيداً على أحد. وكل فرد يدرك أن لا وجود له دون وجود الآخر.
الحقل الثالث للمحتوى الإنساني هو «الحرية»؛ فالبدائي لم يكن مجبراً على العمل الجماعي أو العيش ضمن مجتمع، إنما اهتدى لكل ذلك لأنه الأفضل، ولم يكن يدرك أن هذا العمل سيميزه عن سائر الكائنات! ثم يرشده لإنشاء المجتمع «باختياره»، ويعتبر الخروج منه عقاباً يؤدي إلى الموت.
الحقل الرابع للمحتوى الإنساني هو «العُرْف الاجتماعي»؛ فلم يكن لدى البدائيين شرطة أو مؤسسات قضائية أو قانون. ولم تكن هناك ضرورة لمثل هذه التنظيمات الاجتماعية؛ فالكل يعي بأنه لا يعيش بدون الآخر، ولا توجد «ثروة» تجعل البدائي يتنازع عليها مع الآخر؛ ولذلك كان الحرص على تماسك المجتمع، وتطوره هو الهدف الأساسي للجميع؛ وبالتالي كان العرف الاجتماعي هو المرشد لكل فرد من أفراد ذلك المجتمع البدائي.
أما بعد انقسام المجتمع إلى أسياد وعبيد فقد بدأت المبادئ التي بناها العرف الاجتماعي عبر آلاف السنين تخبو تدريجياً، وأصبحت الأنانية والدسيسة والمؤامرة والغدر والقتل تحل محلها. وفي أيامنا هذه أدى الخروج عن المبادئ والعرف ليس إلى تدمير المحتوى الإنساني وحسب، بل تدمير الطبيعة التي يمدنا الله من خلالها بالقدرة للاستمرار بالحياة.
إنني أتساءل بحرقة: كيف يربي الإنسان أولاده؟ هل يربيهم على المبادئ؛ ليكونوا ضحية كلاب مسعورة تنهشهم؟ أم يربيهم على أن يكونوا ذئاباً يأكل بعضهم بعضاً إذا سقط؟
** **
- د. عادل العلي