محمد آل الشيخ
عندما اخترع العالم الألماني (يوهان غوتنبرغ) في القرن الخامس عشر الطابعة الحديثة استطاع أن يضع العلم في متناول الجميع، وتوافرت المعلومات لقطاع كبير من الناس الذين كانوا مغيبين قبل الطابعة، وتنتشر بينهم الخرافات والأساطير. وكانت المعلومة قبل اختراع الطابعة يحتكرها احتكارًا شبه كامل رجال الدين، وفئة قليلة غير مؤثرة في المجتمعات من الأثرياء؛ لذلك كان لهذا الحدث الجلل دورٌ رئيس في التمرد على علوم الكنيسة في العصور الوسطى، والتمهيد لبزوغ فَجْر الأنوار، وكانت بالفعل من أهم المسوغات التي مهّدت السبل لظهور العلوم الجديدة في مختلف المجالات الدنيوية بعد أن كانت الكنيسة تهتم بمسائل الحياة، وكذلك الحياة بعد الموت، وتعطي إجابات للأسئلة الوجودية بناء على ما ورثه رجال السلك الكنسي عن أسلافهم، وكل من حاول أن يطرح فكرًا مغايرًا لما يقوله رجال الكنيسة يُعتبر مهرطقًا؛ ويعاقبونه بأنواع متنوعة وغاية في القسوة؛ لكي يكون رادعًا لمن تسوّل له نفسه أن يتمرد على ما يقولون.. غير أن انتشار الفكر الآخر، وسهولة وصوله للناس بفضل المطبعة، كان قويًّا؛ ولم يستطع الكنسيون كبح جماح العلم والأبحاث الفلسفية والعقلانية والعلمية، وانتهى هذا الصراع الذي استغرق قرونًا، وكلف المجتمعات الأوروبية ملايين من الضحايا، إلى أن تقلص دور الكنيسة، وأصبح اختصاصها في القضايا الدينية فقط، وسيطرت العلوم الطبيعية التي تعتمد على التجربة والبرهان العقلي واستخراج النتائج على ذهن الإنسان بلا منازع؛ لذلك يمكن القول إن ما وصل إليه الإنسان اليوم من تقدم وازدهار كان من أهم أسبابه - إذا لم يكن السبب الأول - النزعة العقلانية المنطقية التي سيطرت على المقبول والمرفوض، وأقصت الخرافات والأساطير التي لا تواكب العقلانية.
وإذا كان اختراع المطبعة له الفضل الأول في تفوُّق التنوير في أوروبا، وتخليص الإنسان الأوروبي من قيود الخرافة والأساطير، فإنني أعتقد جازمًا أن الإنترنت في مجتمعاتنا سيؤدي الدور نفسه الذي أحدثه اختراع المطبعة في الغرب، وتحديدا من حيث سهولة وصول المعلومة إلى الناس؛ فاليوم أصبح حتى الأطفال يستطيعون أن يصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه في أي شأن من شؤون الحياة ومعارفها، بمجرد ضغطة زر؛ فتنهال إليك المعلومات والآراء من كل حدب وصوب. وليس لدي أدنى شك أن غزارة هذه المعلومات وتنوعها ستصقل ذهن الإنسان العربي، وتمكّنه من أن يكون (فردًا)، يصل إلى نتائجه بنفسه، وليس عن طريق ملقنين، يتولون عنه التفكير، ويفرضون عليه بطريق مباشر أو غير مباشر ما يريدون فرضه؛ لذلك فإن العقود الثلاثة القادمة ستفرض علينا نمطًا جديدًا من التفكير، تتراجع فيه روح الجماعة لمصلحة الفرد المستقل. وفي تقديري إننا إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، وتراجع تفكير القطيع، عندها سنكون بالفعل دخلنا إلى العصر الحديث عمليًّا؛ فالنزعة الفردانية هي أساس الدولة المدنية، التي هي أساس الدولة القادرة على المعاصرة.
إلى اللقاء