د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
ما الذي يغير اتجاهاتِنا، أفكارَنا، مواقفَنا وقت أن كنا نحسبها عصيةً على التبدل؟ وما الذي يجعل ذا العاطفة يشتد، وذا العقل يتبلد، وذا الاستقامة يعوج، وذا العوج يعتدل، والمؤمنَ يضِل والضالَّ يهتدي لولا أن العقل لا يُعوَّل عليه في الثبات؛ إذ يلتفت إلى أمسه فيرثيه ويومه فيَرقيه وغده فلا يدري ما الله صانع فيه، وإذن فالعقل يمارس اللعبة كيفما وأينما ومتى يشاء دون أن يتوقف عند تناقضات المعتدّين بإساره ومساره، ولو تساءلوا: لم يعبثُ بهم ويعثْو في رؤاهم ويفقدُهم منطق التعليل لوجدوا أن من سماته مرونتَه وقابليتَه للإملاءات والاختيارات والتقدمات والتراجعات.
** العلاقة ملتبسة بين العقل والنقل؛ فالنقليون بمأمن من التقلبات لانتمائهم إلى مرجعية يلجؤون إليها عندما تضيق المسالك ويصعب التأويل وتُعوز الحجة موقنين بعدم تعارض «النقل الصحيح مع العقل الصريح»، أما العقليون فلا يعبؤون بالنقل بمقدار ما يعنيهم التفتيش في ثغراته، كما أن صلة العقل بالعمر صلة عكسية فكلما تقدم العمر تراجع تحكم العقل وقلَّ الاتكاء عليه، وبه صار إيمان العجائز مثالًا للطمأنينة وحكمتُهم أنموذجًا للهدوء، أما القضايا المتشابكة بين العقل والمادة فكثيرة، والنزاع النظري في أمورها ممتد منذ الأزل حتى الأجل، وأبحاث علماء النفس والأحياء والذكاء الصناعي طويلة وستطول، وجديدة وتتجدد.
** مشكلة العقل الفلسفي والنقل السلفي غيابُ المنهجية أو تغييبها بين الأضداد؛ فلا العقليُّ قادر على استيعاب قدسية المنقول ولا النقليُّ معنيٌ بتأمل المعقول، وبينما الحوار نفسُه ذو أفقٍ مضيءٍ بالحقائق كما الوثائق فإن بعض المتحاورين ينقلونه إلى نفقٍ مليءٍ بالتخويف والتصنيف عبر وسم تخلف أو وصم تطرف، ولو استقينا مثالي «بول الإبل» قديمًا و»شهادة الأعراب» حديثًا لأدركنا كيف يتيه الحوار والمتحاورون لتمتد القضية إلى قضايا ، وتتشعب المسألة إلى مسائل لا شأن لها بالعلمية والموضوعية، ولتبدأ محاكمة المدارس العقلية والنقلية باتساع أمدائها وأهواء ذويها.
** لن يندم الصامتون وسيسأم المتفرجون؛ فالحوار بين الفريقين مملٌ بل مُضل، والتداخل فيه إيغالٌ في تلويث الذمم حول الشخوص والنصوص، وربما اتفق المتصادمان في نقطة أو نطاق فبقيا في موقعين نائيين وحقُّهما مقعدٌ واحد أو مقعدان متجاوران.
** روى ابنُ الأثير أن بين «القاضي الفاضل 526-596هـ» والشاعر «عمارة بن أبي الحسن اليمني 515-569هـ» عداوةً قديمة؛ فجمعهما مجلس القائد «صلاح الدين الأيوبي 532-589هـ» بعدما صدر أمره بإعدام الشاعر نظير اشتراكه في مؤامرة مع بعض جماعته العلويين، ورأى الشاعرُ القاضيَ يتحدث بأمره مع القائد فتوهم أنه يحرض عليه وقال: يا مولانا: لا تسمع منه في حقي، فغضب القاضي وغادر المجلس، وأخبره صلاح الدين أنه كان يشفع فيه فندم ثم سيق إلى قدره، وكذا يلتبس فهمُ الأضداد لبعضهم فيظلُّون في اغتراب لا يرجى بعده اقتراب.
** الضجيجُ فراغ.