د. ناصر بن علي الموسى
بعد انتظار طويل، خرجت لائحة الوظائف التعليمية إلى حيز الوجود، وقد جاءت في إطار المسلمات الخمس التالية:
- أن بلادنا الحبيبة منذ تأسيس هذا الكيان العظيم على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- حتى عهدنا الزاهر عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وهي تهتم بالتعليم وتدعمه وتخصص له مبالغ مالية كبيرة جدًا تزيد على ربع ميزانيتها السنوية.
- أن رؤية المملكة 2030 بقيادة مهندسها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع تعول كثيرًا على التعليم باعتباره أهم الأدوات التي يمكن توظيفها في سبيل تحقيق أهدافها وتفعيل برامجها التنفيذية.
- أن إصلاح التعليم وتطويره هو السبيل إلى بناء النهضة الشاملة في المجتمع بحكم أن مخرجاته هي التي تشكل النسيج المجتمعي.
- أن المعلم هو حجر الزاوية في العملية التعليمية، وعليه فإن الاهتمام بشأنه، وتقدير مكانته، ورفع معنوياته، وتعزيز مهماته، وتشجيع مبادراته، وتحفيز دوافعه، وتمهين وظيفته، وتطوير أدائه كلها متطلبات أساسية للنهوض بمستوى كم ونوع البرامج والخدمات والنشاطات التعليمية، مع التأكيد على ضرورة استكمال تطوير المنظومة التعليمية التي تشمل المباني المدرسية، والبيئات الصفية، والمناهج الدراسية، والخصائص والاحتياجات الطلابية، والأنشطة الصفية وغير الصفية، والتعاملات الرقمية .. إلخ.
- أن تحديث وتطوير اللوائح والأنظمة هو مطلب أساس لتعزيز الاستمرار في عملية التقعيد والتقنين والتنظيم والتأطير في البيئات التعليمية.
وعند الإعلان عن هذه اللائحة تفاوتت ردود الأفعال في الأوساط التربوية تجاهها؛ فهناك من تفاءل بها، وهناك من تذمر منها، وآخرون رأوا أن الإيجابيات فيها تفوق السلبيات، في حين رأى البعض الآخر أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، وركز فريق على جوانب محددة تتعلق بالتحفيز والمزايا، ونبه فريق آخر إلى أن الوزارة لم تستفد من خبرات وتجارب وأفكار وآراء ومقترحات المعلمين والمعلمات مع أنهم هم الفئة المستهدفة باللائحة.
وعلى كل حال فهي -ولا شك- وجهات نظر مقدرة ومثمنة، ولكل منها وجاهته، وبكل منها قيمته، وعلى الوزارة أن تعيرها آذانًا صاغية وقلوبًا مفتوحة كي تستثمرها أحسن استثمار في عمليات التحديث والتطوير المستمرة. أما أنا، فإن ملاحظاتي -بعد هذا الاستطراد الطويل- ستنصب على الجوانب المنهجية والمضامينية التالية:
أولاً: كان ينبغي أن تسمى هذه اللائحة (لائحة المهن التعليمية)، بدلاً من لائحة الوظائف التعليمية، وذلك لسبب بسيط هو أن اللائحة ترتكز -في أساسها- على فكرة تمهين التعليم، أي الانتقال بالعمل في التعليم من وظيفة عادية إلى مهنة احترافية يتمتع صاحبها بشخصية سوية معتدلة، ويحمل فكرًا تربويًا أصيلاً، ويمتلك معارف ومهارات مميزة، ويتفرّد برسالة تربوية نبيلة، ويتسم برؤية تعليمية واضحة، ويسعى إلى تحقيق أهداف وطنية سامية، وينمو مهنيًا بشكل مستمر.
ثانيًا: يلاحظ أن كثيرًا من المصطلحات الواردة في المادة الأولى من اللائحة يغلب عليها الطابع الإنشائي، ويفتقر عدد منها إلى الدقة، وقد ركز بعدها - مثل المصطلحات الخاصة برتب المعلمين - على الجوانب الشكلية دون العناية بالجوانب الموضوعية المتعلقة بالمضامين الأساسية التي تقوم عليها تلك الرتب.
ثالثًا: لم تشتمل اللائحة على أهداف واضحة محددة تسعى لتحقيقها يمكن قياسها والحكم عليها من خلالها.
رابعًا: لم تشتمل اللائحة على مهمات واضحة محددة للمعلم تعكس جوهر المضامين التي تقوم عليها رتب المعلمين، صحيح أن المهمة الرئيسة للمعلم هي التدريس، غير أن أحداث هذه الرتب في اللائحة ينبغي أن يصاحبه تطور نوعي في مهمات المعلم حسب تدرجه في تلك الرتب.
خامسًا: تضمنت اللائحة وظيفة مساعد معلم، وهي إضافة جيدة، إِذ سيتولى مساعد المعلم القيام ببعض الأعمال التي تمكن المعلم من استثمار وقته في أداء مهامه الأساسية. وقد تتفاوت الحاجة إليه باختلاف التخصصات، حيث تظهر الحاجة إليه بوضوح في التربية الخاصة، وقد اشتملت القواعد التنظيمية لمعاهد وبرامج التربية الخاصة الصادرة عن وزارة المعارف عام 1422هـ على وظيفة مساعد معلم، حيث تضمنت المادتان الحادية والخمسون والثانية والخمسون على التوالي من هذه القواعد تعريفًا لمساعد المعلم وتحديدًا لمهامه الأساسية. ومع أهمية هذا الموضوع، إلا أنه كان يتعين على اللائحة تحديد دور مساعد المعلم بشكل أوضح، بحيث لا يمكنه - تحت أي ظرف من الظروف - القيام بمهمة التدريس، وإلا تسبب وجوده في إضعاف العملية التعليمية، كما كان يتعين على اللائحة تحديد نصابه التعليمي وعدم تركه للوزارة، إذ إن الأمر لا يتوقف على تحديد نصابه بالطريقة التقليدية فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى طبيعة احتساب هذا النصاب، هل يتم احتسابه بعدد الحصص الدراسية؟ أم يتم احتسابه بعدد الساعات التي يقضيها في العمل؟ أم يتم احتسابه بعدد الحالات التي يتعامل معها؟.. إلخ.
سادسًا: لم تعالج هذه اللائحة المشكلة المزمنة التي لازمت مسيرة تعليمنا طيلة السنوات الماضية، وجعلت منه وظيفة من لا وظيفة له، وأعني بذلك انخراط أعداد كبيرة من غير التربويين في سلك التعليم، الأمر الذي أثر سلبًا على مخرجاته، وقد نجم عن هذا الخلل الواضح في اللائحة تناقض بيِّن؛ فمن جهة تدعو اللائحة إلى تمهين التعليم، ومن جهة أخرى تدع باب التعليم مفتوحًا على مصراعيه للتربويين وغير التربويين، فكيف يكون ذلك؟! إن التربويين يجمعون على أن أول خطوة في سبيل تمهين التعليم هي ضبط مدخلاته، ومن ثم تحسين مخرجاته، فكما أنه لا يجوز لغير الطبيب مزاولة مهنة الطب، ولا يسوغ لغير المهندس ممارسة مهنة الهندسة، ولا يمكن لغير القاضي أن يعمل في مهنة القضاء، فمن باب أولى إلا يمتهن مهنة التعليم إلا المختصون في المجالات التربوية، فالتعليم هو الذي يخرج الأطباء والمهندسين والقضاة وغيرهم من شرائح المجتمع، وعليه فالدبلوم الذي يشترط لتعين مساعد المعلم يتعين أن يكون تربويًا، وكذلك معلمو المواد كمعلم الرياضيات، ومعلم الفيزياء، ومعلم الكيمياء، وغيرهم لا ينبغي تعيينهم في سلك التعليم إلا بعد الحصول على دبلوم تربوي.
سابعًا: يوجد تناقض آخر في اللائحة؛ ففي الوقت الذي تتبنى فيه اللائحة مبدأ تحفيز وتشجيع المعلمين على النمو المهني، نجدها لا تعنى كثيرًا بحملة المؤهلات العليا كالماجستير والدكتوراه، حيث لم توجِد فوارق مادية كبيرة بينهم وبين غيرهم، وهذا الخلل سوف يتسبب في عدم حث المعلمين والمعلمات على مواصلة دراساتهم العليا. وإضافة إلى ذلك، أغفلت اللائحة موضوع الإيفاد والابتعاث، مع أنهما رافدان مهمان من روافد النمو المهني للمعلمين والمعلمات، وكان لزامًا على اللائحة دعمهما، حتى لو كان لدى الوزارة لوائح بهذا الشأن، فهذه اللائحة تُعد حاكمة على جميع اللوائح المعنية بالمهن التعليمية.
ثامنًا: لم تعن هذه اللائحة بممارسي المهن التعليمية في التربية الخاصة إلا في جانب واحد هو احتساب نصاب المعلم، أما الجوانب الأخرى المهمة، فلم يتم التطرق إليها، فعلى سبيل المثال لم تعمل اللائحة على تثبيت الحقوق المكتسبة، والمتمثلة في الحوافز المادية والمعنوية التي منحتها الدولة - أعزها الله - لممارسي المهن التي تقوم عليها التربية الخاصة نظير الجهد الكبير الذي يبذلونه في التعامل مع التلاميذ والتلميذات ذوي الإعاقة، كما أن جواز التكليف الوارد في المادة رقم (22) من اللائحة لم يشمل بعض التكاليف التي تحتاجها التربية الخاصة مثل المشرف على برنامج التربية الخاصة في المدرسة العادية، والمشرف التربوي المقيم.. إلخ.
تاسعًا: تحيل اللائحة كثيرًا إلى مجهول، فعلى سبيل المثال نصت المادة السادسة على: «تحدد المؤهلات والتخصصات المناسبة لمجال التعليم بالاتفاق بين الوزارة ووزارة الخدمة المدنية». وهذا النص وغيره الكثير من النصوص التي وردت في عدد من المواد والفقرات لا يقدم أية معلومات عن المنصوص عليه، بل يدع ذلك إلى الاتفاق بين وزارة التعليم ووزارة الخدمة المدنية، وعدم تحويل المجهول إلى معلوم يتم تضمينه في اللائحة يعد نقصًا واضحًا فيها من شأنه أن يؤثر سلبًا في فاعليتها ومدى الاستفادة منها.
عاشرًا: اشتملت اللائحة على العديد من الاستثناءات التي تجيز للوزارة والوزير الاستثناء من بعض الأحكام المنصوص عليها في اللائحة، وهذا -ولا شك- يضعف هذه الأحكام، ويؤثر سلبًا في مصداقيتها.
وفي الختام، أتمنى على وزارة التعليم أخذ هذه الملاحظات وغيرها من الملاحظات التي أبديت بالفعل، وتلك التي ستبدى فيما بعد بعين الاعتبار، والأهم من ذلك أن تعمد الوزارة إدارات التعليم بجمع الملاحظات والمرئيات التي تردها من الميدان التربوي، إذ إن المحك الأساس الذي بموجبه يمكن الحكم على هذه اللائحة هو تطبيقها الفعلي على أرض الواقع. وبعد اكتمال جمع الملاحظات والمرئيات تقوم الوزارة بإعادة النظر في هذه اللائحة بغرض تحديثها وتطويرها، وقد يكون من المناسب تحويلها إلى نظام متكامل يسمى: (نظام المهن التعليمية)، ويكون له لائحة تنفيذية تفصل ما تم إجماله، وتوضح ما لم يرد إيضاحه في النظام.