د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
يلحظ المسافر من منطقتنا لدول ما يسمى بالعالم الأول في أول ما يلحظ انشغال الناس والدول بالبناء والتحديث أكثر من انشغالهم بأمور أخرى، مما يحسسه، أي المسافر، بالحزن والأسى لانشغال سكان دول منطقتنا بالأحداث والأخبار والسياسة وتمسك بعض قياداتها بالصراع والغلبة.
نعيش في الآونة الأخيرة فترة اقتتال مستمر بسبب مشاكل معقدة بعضها غير مفهوم وبعضها الأخر غير عقلاني ويستعصي على أيّ حل بسبب عدم منطقيته أو ربما حتى عقلانيته. وفور ما تكلمت مع صديقي الأوروبي عن بعض أسباب صراعاتنا انفجر من الضحك. فهو لا يصدق أن البعض منا يقتتل حول مشاكل دفنتها طبقات من التاريخ وعمرها يقارب القرن والنصف!!1400 عام؛ ولم تحلوا مشاكلكم بعد بشكل نهائي ولا زلتم وأنتم أبناء دين واحد تتصارعون حولها؟.. قلت له على رسلك يا صاحبي فالبعض منا لا يزال يعيش بعقلية تلك العصور الغابرة، بل إن منهم من يدعي أنه مقدس ومعصوم من الخطأ لأن دم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام لا يزال يجري في عروقه من ذلك الوقت حتى اليوم، فكيف يستطيع التأقلم مع هذا العصر. ولا يزال أتباعهم من الجهلة يدفعون لهم المال لهذا السبب ويجرحون أنفسهم بالسيوف للإحساس مجددًا بألم مظلومية مر عليها أربعة عشر قرناً.
رد عليّ صاحبي بأن سياسييهم لا يذكرون ذلك مطلقًا عندما يخرجون على وسائل الإعلام، وأنهم يظهرون دائمًا بأحدث مظهر حضاري وبآخر موضات الأناقة، ويتحدثون بعقلانية ولا يأتون مطلقًا على ذكر ما تتكلم عنه. ضحكت وأجبته، لا تغرنك المظاهر ولا تخدعك القيافة، فتحت هذه البدل الفاخرة أسمال عقول بالية.. لديهم في بعض ما يعتقدون عبادة إخفاء الحقيقة، ويعتقدون أن لهم أجرًا في ذلك ويسمون ذلك التقية! فرد علي مازحاً، من الصعب أن أصدقك فقد تكون متطرفاً من الطرف الآخر. ثم سألني لِمَ لا نشرح ذلك للعالم.. فالعالم أجمع يعتقد أنهم مظلومون وأنتم المعتدون؟.. قلت له حكوماتكم ليست كشعوبكم، ولو أرادت لأخبرتكم الحقيقة، فمخابراتكم تعرف كل شيء وربما لهل أيادٍ مخفية في مآسينا، وإعلامكم يخفي عنكم أيّ شيء. فلمَ لا تخبركم بالحقيقة وأنتم بلد ديمقراطي؟.. لِمَ تصرون على طلب الحقيقة كاملة؟.. فأجاب الديمقراطية اليوم ليست إلا واجهة خارجية لقوى متنفذة تسيطر عليها العقول الصدئة ذاتها التي تسيطر على من ذكرت. الديمقراطية اليوم مسمى آخر منمق لنوع من أنواع الديكتاتورية، الديكتاتورية المالية.
عدت للفندق حزينًا مكروب الخاطر، ولم أعرف لذلك سببًا معيناً، وقلت لنفسي نحن ولدنا للحزن وأينما يممنا الحزن يلاحقنا ولا يستثنينا حتى إجازاتنا. الحزن طابعنا وربما جزء من جيناتنا. حتى عندما نكون وسط أناس فرحين لا نستطيع الفرح معهم ونحزن أكثر لأننا ننشغل بالتفكير في أسباب عدم قدرتنا على الفرح بتلقائية مثلهم؟.. تساءلت عن ذلك كثيرًا بشكل مزق سعادتي في إجازتي.
عرفت أننا شعوب نفيق على أخبار الدمار والحروب.. شعوب ملت الانتظار للوصول للنور في آخر النفق السرمدي. شعوب لا أمل لها في حياة هذا العالم وتنتظر فرجًا من الله لحياة في عالم آخر. نعيش في حالة حزن حاضر لفرح مؤجل. حالة حيرة مقلقلة طغت على بقايا روح التسامح لدينا. نرى الخير في قليل من عمل الخير، وكثير من الاقتتال وأعمال الحرب. لدينا كغيرنا ملائكة وشياطين لكننا أحيانا لا نفرق بينهم. فالبعض منا يؤمن أن الملائكة تصطف بجانبه لتقتل عدوه، وعدوه أيضًا لديه ملائكة تتبع مذهبة وتدافع عنه.
أفكر أحياناً أن معظم صراعاتنا إن لم يكن جلها هي من اختراعنا ومن بنات خيالنا، أسبابها خيالات وخرافات من صنعنا، نبني عوالم من الخرافات نلتهمها وتلتهمنا، عوالم بديلة عن سعادتنا. فنحن نخاف السلام والحب والسعادة أكثر من القتال والحرب.. الحب والسعادة لا تحتجان للشجاعة ولا الرجولة التي هي غاية مطلبنا، ومحبتنا لبعضنا البعض الآخر تدفعنا لتقاسم كل شيء معه. أما الشجاعة والرجولة فتدفعنا للغلبة التي بها نسيطر على كل شيء لنتصدق على غيرنا ببعض الشيء، خيارنا الدائم كان بين الصدر أو القبر، الصدر لنا والقبر لغيرنا.
تغير العالم من حروب السيوف والدروع وتغيرت معه عقلياته، تغيرت حالنا ولم تتغير عقولنا، استمرت حروبنا واختلفت وسائلها فقط. اليوم نتحارب بسيوف ودروع يصنعها غيرنا، سيوف غير مرئية تحصد الأرواح حصداً. سيوف يصنعها غيرنا ويقايضنا بها بقوتنا. وإن لم تقتلنا هذه السيوف وتسببت فقط بإعاقة دائمة لأجسادنا فهو أيضاً يبيع الدواء لنا. اللهم اجمع شملنا، واحم أطفالنا، وزوج أراملنا واحم نساءنا، واجعل دعاءنا عليهم في منابرنا دعاء لنا.