م. بدر بن ناصر الحمدان
منذ أن كنتُ صغيرًا تعوَّدت على أن أقوم بتوصيل «قهوة» والدتي -حفظها الله- إلى منزل مَن ستقدِّم لهم واجب الضيافة من صديقاتها أو قريباتها. و»القهوة» هنا لا تعني المشروب بحد ذاته، بل يقصد بها مجازًا وصف لشكل من أشكال الضيافة بكل مكوناتها، من شاي وقهوة ومكسرات وغيرها؛ وذلك من أجل مناسبة اجتماعية، تتعلق بالتعافي من مرض، أو ولادة، أو حج، أو زواج، أو عودة من سفر.. وخلافه. وكانت توضع في السابق في إناء كبير (قدر)، أو سلة، وعادة ما يتم تحضيرها في منزل «المضيفة»، وإرسالها إلى منزل «المضيفة» قبل ساعة من موعد الضيافة. ويقال في نجد «فلانة بتقهوي فلانة»، أي ستقوم بواجب ضيافتها، ويطلق عليها وصفًا «قهوة حريم».
قبل ثماني سنوات طلبت مني الوالدة -حفظها الله- كما اعتادت منذ زمن أن أقوم بتوصيل قهوتها «ضيافتها» لإحدى صديقاتها التي كانت قد خرجت من المستشفى، وكنتُ حينها «رئيس بلدية» على المرتبة الثانية عشرة. ونزولاً عند رغبتها حملتُ سلة الضيافة، وذهبت بها إلى منزل صديقتها، وحين توقفتُ عند الباب، ونزلت من السيارة لأقوم بوضع هذه السلة على درج المنزل، إذا بشخص يفتح الباب، وينظر لي مندهشًا، ووقف يراقبني في صمت، وبنظرات «ناقدة»، وأنا أحمل هذه السلة، وهو في حالة من الحرج غير المبرر، لا لشيء سوى أنه زميل عمل، ويعمل تحت إدارتي، وكان شابًّا صغيرًا حينها. سلمتُ عليه، وركبت سيارتي، وغادرت تاركًا إياه غارقًا في حيرته.
في اليوم التالي كان موعد الاجتماع الأسبوعي في العمل، وبينما كنت أتحدث للزملاء الموظفين عن أحد المشاريع دخل صاحبنا إلى القاعة بخطى تختزل كل تلك المسافة بينه وبين الكرسي المخصص له أمامي، وهو ينظر إلى الأرض حتى لا يحرجني من جراء الموقف الذي «ضبطني» فيه بالأمس -على حد تقييمه- وهو ربما لا يعلم أن ما قمت به كان شرفًا رفيعًا جدًّا بالنسبة لي، وتكريمًا كبيرًا أن حظيت بنعمة الامتثال لرغبة والدتي في ممارستها عادتها القديمة في الضيافة، ومن خلال ابنها البكر الذي اعتادت أن يقوم بذلك على مدى ثلاثين سنة ماضية.
عندما أخذ هذا الصاحب مكانه في الاجتماع تعمدت أن أقدم له رسالة ودرسًا في الأخلاق على الهواء مباشرة، وأمام كل زملائه. رحبت به، وقلت له باللهجة المحلية «تسلم عليكم الوالدة، وتقول ترى ولدي بدر بيجيكم يأخذ سلة القهوة والشاي اليوم بعد صلاة العصر»، ووسط ابتسامة الزملاء من هذا الحوار تأكدت أنه كان قد روى لهم في الصباح حكاية العمل «المخجل» الذي قام به رئيس البلدية بالأمس، وهو لا يعلم أن خدمة الوالدين فرصة لا يعوضها شيء على هذه الأرض، مهما كانت ظرفية المكان والزمان، سواء كان المرء «وزيرًا أو غفيرًا»؛ فأمامهما يسقط كل ما قد تتوهم من «مكانة»، لا قيمة لها بتاتًا في معيار برهما.
إلى صاحب هذه الرواية، وبعد كل هذه السنوات التي مضت، إن كنت تقرأ هذا المقال فيسعدني أن أقول لك بأني في ما يعادل المرتبة الرابعة عشرة الآن، وما زلت أقوم بشرف توصيل «قهوة» والدتي حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وسأبقى إن شاء الله، ولم يختلف شيء منذ ذلك الوقت سوى أنها -حفظها الله- استبدلت «الكليجا» بالـ»بانكيك والتيراميسو»، وأضافت «الشاي المغربي» إلى سلة الضيافة.
كونوا على «طبيعتكم»؛ لتستمتعوا بالحياة. لا شيء يبقى سوى «القيم» التي بداخلكم.