م. خالد إبراهيم الحجي
إن جميع مراكز التوثيق التاريخية بأنواعها المختلفة وأشكالها المتنوعة، مثل: المتحف الوطني السعودي، ودارة الملك عبدالعزيز في الرياض، هي أماكن مخصصة لتخليد ذكريات الشخصيات العلمية والتاريخية المؤثرة في المستوى المحلي في بلادهم أو على المستوى الدولي في العالم، خلال فترات زمنية معينة، وتوثيق العادات والتقاليد الاجتماعية، والمعارف العلمية والثقافية والحضارية القديمة، والأحداث التاريخية التي انتهت منذ فترات طويلة، ومر عليها بعض العقود أو القرون ولم تعاصرها الأجيال الحاضرة أو المقبلة. كما تعد أدوات تعليمية مفيدة على نطاق واسع؛ تحفظ فديوهات وأفلامًا من الماضي، وتُسخِّر المعرفة بطريقة مفيدة لأخذ الدروس واستلهام العبر من الفترات التي عاشتها المجتمعات السابقة. وبعض هذه المراكز يتضمن الجوانب السيئة من تاريخ الحضارات القديمة، ويحفظها، مثل: جرائم الحروب وتاريخ الفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية، واليهودية، كما في مركز التوثيق النازي في ميونخ، ومركز التوثيق التاريخي اليهودي في فيينا، وتوثيقها بطريقة علمية منظمة يُسهِّل فهمها ويحفظها للأجيال القادمة؛ لأنها تبدو خيالية في كثير من الأحيان، ومن الصعب أن تصدقها الأجيال المعاصرة؛ لذلك فإن مراكز التوثيق التاريخية تقدم الأدلة الصوتية الواضحة بالأفلام الوثائقية التي تجسد بعضًا من آثارها، وتدفع الظن وتقطع الشك المتعلق بها، وتُقنع الزائرين والمشاهدين بصدقها وصحتها.. وكذلك تطورت طرق العرض التي أصبحت تجسد الأحداث الواقعية، فربطت الصور المتتالية ومقاطع الفيديو المتعددة مع كتابة المتن والسرد التاريخي فأنتجت أفلامًا وثائقية متطورة بتقنيات الحفظ الرقمي في الأرشفة الإلكترونية، فسهلت للباحثين الحصول على المعارف التاريخية، ومكنت جميع الناس من زيارتها ومشاهدة الأفلام الوثائقية التي تجسد الأحداث الماضية..
لذلك أقترح إنشاء مركز توثيق تاريخي لفترة الصحوة التي ظهرت في المملكة العربية السعودية وبدأت عام 1400هـ بقيادة مجموعة من رجال الدين الضالعين في المذاهب الإسلامية السلفية من الحاملين لدرجات الدكتوراه في المجالات الإسلامية المختلفة، الذين انحرفوا تدريجيًا، وانزلقوا في التعنت والتزمت والتشدد، واستندوا في كثير من الأحيان على بعض الفتاوى المجتزأة من كتب التراث، وقاسوا على بعض المسائل والقضايا التي حدثت قبل عدة قرون، وفي بعض الأحيان الأخرى لووا أعناق النصوص الدينية، واستعملوها خارج السياق لدعم مواقفهم المخالفة، فأدخلوا المجتمع السعودي في حالة من الركود والجمود لمدة 40 عامًا، ووقفوا حجر عثرة، وعقبة كؤود أمام التطور والانفتاح في مجالات الحياة المتنوعة، وأغلقوا أبواب الفكر في جميع التخصصات العلمية إلى أن قيض الله الأمير محمد بن سلمان، وتولى مقاليد ولاية العهد السعودي بفكر حديث متنور، فرفض غلوهم وقضى على تشددهم الذي ظهرت أشكاله في الأمثلة التالية:
(1): إساءة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضييق على الناس في معاملاتهم اليومية والحياتية التي وصلت في بعض الأحيان إلى حد الإحراج الشديد، والتدخل في الأمور الشخصية والشؤون العائلية، والغلظة في التعامل والإهانة في بعض المواقف، والاعتداء على المواطنين باسم الدين، وفي كثير من الأحيان الملاحقة واتهام بعض الناس بارتكاب المخالفات الدينية في الشوارع والطرقات والأسواق العامة.
(2): تعزيز الثقافات الخاطئة بحجة المحافظة على خصوصيات المجتمع السعودي المتمسك بالعادات والتقاليد العربية والإسلامية الأصيلة، ورفض التنوير والتجديد والحداثة، وازدراء الحضارات الغربية والتحذير من أخطار التكنولوجيا الحديثة وأضرارها بحجة الانخراط والانغماس في التغريب، مثل تحريم أطباق القنوات الفضائية، وجوالات الجيل الرابع لاحتوائها على كاميرات التصوير، ورفضهم قيادة النساء للسيارات.
لذلك فإن إنشاء مركز توثيق تاريخ غلو الصحوة سيجسد للجيل الحاضر والأجيال القادمة أشكال التشدد والغلو التي حدثت في هذه الفترة، ويتيح لهم معرفة الوضع الذي عاشه المجتمع السعودي خلال مرحلة الجمود والانغلاق، كما سيتيح لهم المقارنة بين فترة غلو الصحوة وبين مرحلة الانفتاح الفكري ومواكبة مستجدات الحداثة والتنمية والتطوير. ويقنعهم بأضرار التشدد والغلو وأخطاره في الحياة وآثاره السيئة على المجتمع، ويؤكد لهم على أهمية محاربته والقضاء عليه قبل أن يستفحل ويعود مرة ثانية.
الخلاصة:
إن إنشاء مركز توثيق غلو الصحوة أفضل طريقة للمقارنة بين الماضي والحاضر لمعرفة أين كنَّا وما نحن عليه اليوم.