د.عبد الرحمن الحبيب
يتذكر جيم ماتيس عندما كان طالبًا بكلية واشنطن المركزية عام 1968 بعد ضبطه باستخدام الكوكايين وهو في عمر التاسعة عشرة، كيف حكم القاضي عليه بقضاء عطلات نهاية الأسبوع في السجن، وأنه كما قال «لم يدمر مستقبلي» بسجل إجرامي، ومدركًا بعدها قيمة «الفرصة الثانية»؛ حتى أنه عندما ترقى بالمناصب كان يتدخل لإتاحة فرصة ثانية للمجندين الذي يضبطون لمثل تلك الجنح..
هذا ما جاء في كتاب «استدعاء إشارة الفوضى.. تعلم القيادة» (Call Sign Chaos: Learning to Lead) للجنرال جيم ماتيس وزير الدفاع الأمريكي خلال عامي 2017 - 2018، الذي صدر هذا الشهر، وشاركه بالتأليف وبينغ ويست، مساعد وزير الدفاع السابق. يعد ماتيس من كبار المفكرين الإستراتيجيين بأمريكا ومن أشدهم انضباطًا.. وعلى الرغم من استقالته في ديسمبر الماضي لأسباب «مبدئية» كما قال إلا أن تأثيره لا يزال واضحًا ويستمع لآرائه، ويقال: إن ترامب يستجيب لكثير من نصائحه ويتراجع عمّا أعلنه مثل بقاء القوات في سوريا وخفض سحب القوات من أفغانستان.. فمع خبرته وشخصيته المميزة، كان من الصعب تجاهل ماتيس الملقب بـ «الكلب المجنون» و»كايوس».
يكره ماتيس اللقب الأول الذي لا يعرف من أين أتى، لكنه مغرم بالثاني لأنه اختصار لعبارة «العقيد لديه حل آخر رائع» الذي حصل عليه من ضابط عملياته العقيد جون تولان الذي بدوره أصبح قائد قوات مشاة البحرية بالمحيط الهادئ.. وبين هذين اللقبين حصل على لقب ثالث وهو «المحارب الراهب».
يقدم ماتيس عصارة تجربة أربعة عقود من التجنيد إلى التقاعد عبر أدوار قيادية لثلاثة حروب وقيادة ربع مليون جندي بالشرق الأوسط؛ ويروي مذكراته منذ شبابه وخبراته التأسيسية كقائد، ويستخلص الدروس التي تعلّمها عن طبيعة الحروب وصنع السلام، وأهمية الحلفاء، والمعضلات الإستراتيجية، ومخاطر التفكير قصير النظر؛ موضحًا ضرورة عودة أمريكا إلى قاعدة إستراتيجية حتى لا تستمر بكسب المعارك ولكن خوض حروب غير حاسمة.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء: القيادة المباشرة؛ القيادة التنفيذية؛ القيادة الإستراتيجية.
في الجزء الأول، يتذكر ماتيس تجربته المبكرة في قيادة المارينز. بالجزء الثاني، يستكشف ما يعنيه قيادة الآلاف من القوات وكيفية تكييف أسلوب قيادتك لضمان فهم نيتك من قبل القوات الأصغر لديك حتى يتمكنوا من امتلاك مهمتهم. الجزء الثالث، يصف تحديات وتقنيات القيادة على المستوى الإستراتيجي، ومدى صعوبة أن يوفق القادة العسكريون بين حقائق الحرب القاتمة مع التطلعات الإنسانية للقادة السياسيين، مما يتداخل فيها التعقيد والنتائج الكارثية للحماقة وقصر النظر..
يضم الكتاب نقدًا مباشرًا لبعض سياسات وقرارات الرئيسين السابقين (بوش وأوباما)، لكنه تجنب النقد المباشر لترامب «لأنه لا يزال يشغل منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة» حسب قول المؤلف، ومن أجل الحفاظ على جوهر النقاش لئلا ينحدر إلى صراع شخصي أو حول الميول السياسة.. لكن كثيرًا من آراء المؤلف تتعارض بوضوح مع سياسات ترامب مما يعني أنه نقد غير مباشر لسياسات الرئيس.
أما أهم المقتطفات فيما يخص آراء ماتيس حول القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، فتبدأ بأفغانستان، إِذ يلقي باللوم على قائد القيادة المركزية الأمريكية في هروب أسامة بن لادن من تورا بورا، لأنه رفضه نشر قوات المارينز بالرغم من أن الرئيس الأمريكي تصرف بشكل سليم حين أحال له هذه المهمة.
بيد أن ماتيس يضع اللوم مباشرة على الرئيس بوش في العراق لإقحام الولايات المتحدة في الفوضى، وعلى باراك أوباما للانسحاب عام 2010 مما سمح بعودة تنظيم القاعدة للمنطقة. ويبدي ماتيس ملاحظته على الحرب: «لقد صدمني غزو العراق. لماذا نقاتلهم مرة أخرى؟». ويسخر من بوش الذي أعلن تحرير العراق، فيما صُنِّف العراق «غير حر» من منظمة بيت الحرية (Freedom House).
وعلى الرغم من ثنائه على أوباما لذكائه وتحفظه على الحروب إلا أنه يعارض موقفه من إيران وتوقيع الاتفاق النووي معها التي يراها عدو غير موثوق فيه وداعم للإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة؛ مذكرًا بالمؤامرة الإيرانية لتفجير مطعم ميلانو في واشنطن حين كان السفير السعودي آنذاك عادل الجبير أحد ضيوفه، ورفض أوباما حينها طرحها للرأي العام، مما شكل فشلاً في الرد الأمريكي على المؤامرة الإيرانية. كما يُذكِّر بالفشل بعدم مهاجمة سوريا عسكريًا بعد استخدام السلاح الكيماوي وتنفيذ «الخط الأحمر» أو كما سماه ساخرًا «خط أوباما الأحمر الوهمي»!
كما ركز ماتيس، على خطورة عدم الوضوح في السياسة الأمريكية وما ينتج عنها من سلبيات شديدة؛ إِذ يرى أن عدم وجود إستراتيجية من شأنه أن يولد الشعور بأن الولايات المتحدة «أثبتت أنها غير موثوقة». يقول ماتيس: «لقد شعرت بخيبة أمل وإحباط.. فشل صانعو السياسة في كثير من الأحيان في تقديم اتجاه واضح».
أخيرًا، الكتاب يشجب التعصب الديني في أمريكا، ويشيد بالخدمة العسكرية للمهاجرين، ويقدم تأييدًا كاملاً لحلف الناتو: يقول ماتيس: «تزدهر الأمم مع الحلفاء، والأشخاص الذين لا يذبلون». وفي الختام، يحذر من حالة الاستقطاب والانقسام السياسي الأمريكي والقبلية الصاخبة فيها.. إلا أنه في نهاية المطاف يقول إنه متفائل. بين هذه التحذيرات الجدية وهذا التفاؤل التجميلي يبدو مستقبل أمريكا غامضًا..