د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
كنت مدعواً إلى وليمة نكاح قبل ما يقارب عشرين سنة، فرأيتُ شيخاً مضيء الوجه, قد ذهب بصر عينيه, متجملاً في لباسه, قد ازدان المشلح به, جالساً بين الحضور تسارع العين إليه, وبعد تناول العَشاء قُرِّبت السيارة إليه فاقتربتُ منه لأسلم عليه وأودعه لأكسب دعاءه وأجر توقيره, مع أني لا أعرفه حينئذ, لكن حداني لذلك سمته، وتوقير الناس له, وكان بجواره الشيخ الكريم خالد بن ناصر الحميد يمشي معه لتوديعه, فلما حاذيت الشيخ ودنوت منه عرَّف بي الشيخ خالد -جزاه الله خيراً- وربما زاد في التعريف عفا الله عني وعنه وعن الشيخ! فمسك الشيخ الكفيف بيدي, وأقبل عليَّ فرحاً مستبشراً سائلاً الزيارة مع ظني أنه أول مرة يطرق اسمي سمعه, فلما ودعته, قال: يا ولدي نراك قريباً, فقلت: أبشر طال عمرك.
أخذني العجب من هذا الشيخ اللطيف يحرص على مثلي, ويطلب الزيارة مني.
ذهبت أيام كثيرة وكنت مضمراً زيارته, حتى سنحت الفرصة فذهبتُ لزيارته والجلوس إليه, فما أطيب حديثه, وأحسن ذكراه, تربى على يديه أجيال في معهد الرياض العلمي وفي المسجد.
دعاني ليلة أن أذهب معه للدرس الذي يلقيه في جامع الأمير عبدالرحمن, فلما دخلت معه المسجد كان أكثر الحضور من خارج المملكة, فغبطته على ذلك -رحمه الله.
مرة سأل طالباً من طلابه في المعهد عن شيء اتهم الطالب به, فحلف يميناً أنه لم يفعله, فقال له الشيخ: يمين النابغة أم يمين امرؤ القيس؟ فلم يدر الطالب ما يقول! فقال الشيخ: اختر أيمينك كيمين النابغة الذبياني أو كيمين امرؤ القيس؟ فقال الطالب: اختر لي يا شيخي فإني لا أعرف يمينهما, فقال: نعم سأخبرك أيهما يمينه صادقة، لكن لا يبلغني عنك شيئاً مرة أخرى يسوؤني قبل أن يسوؤك يا ولدي, قال الطالب: فما زالت شفقته عليَّ أتذكرها المرة بعد المرة -جزاه الله عني خيراً.
ويمين النابغة يمين صادقة في قوله:
حلفتُ، فلم أتركُ لنَفسِكَ ريبةً
وليسَ وَراءَ اللهِ للمَرءِ مَذهبُ
لَئِن كُنَتَ قد بُلّغتَ عنّي خيانةً
لمُبلِغُكَ الواشي أغشُّ وأكذَبُ
وَلَكنَّنِي كُنْتُ امْرَأً لِيَ جَانِبٌ
مِنَ الأَرْض فِيه مُسْتَرَادٌ وَمَذْهَبُ
ولَستَ بمُستَبقٍ أخاً لا تَلمُّهُ
على شَعَثٍ، أيّ الرّجالِ المُهَذَّبُ؟
وأما يمين امرؤ القيس فقد قال هو عن يمينه:
حَلَفْتُ لها بِاللهِ حِلْفَةَ فَاجِرٍ
لَناموا فما إنْ من حديثٍ وَلا صَالِ
فَلَمّا تَنَازَعَنا الحَديثَ وَأسْمَحَتْ
هَصَرْتُ بغُصْنٍ ذي شَمارِيخَ ميّالِ
فشتان بين يمين النابغة ويمين امرؤ القيس.
سنحت فرصة بتيسير الله أن أتقدم إلى إمامة أحد المساجد, وذهبتُ لإجراء المقابلة لاعتماد الإمامة فيه, فلما دخلتُ فرع وزارة الشؤون الإسلامية بمنطقة الرياض سألتُ عن مكان المقابلة، فلما دخلتُ المكتب فإذا بالشيخ -رحمه الله- هو المخوَّل بالمقابلة والاختبار, فبعد الترحيب الجم والكلام اللطيف منه -غفر الله له- قال: إني لفي حياء كبير أن اختبرك وأنت فوق الاختبار, لكن إن شئت تسمعني أي آية من كتاب الله نكسب فيها أجراً وتبرأ ذمتنا في عقد المقابلة فتفضل علينا, فقلت: جزاكم الله عني خيراً وليس لدي إلا ما تأمرون به، ثم تعوذت بالله من الشيطان وقرأت من قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ..} (36) سورة الزخرف ثلاث آيات, فقال: بركة بركة, الله يسددك ويعينك، استعن بالله.
حدثني الأديب أبو عبدالعزيز حمد الحميَّد -حفظه الله- قال: كنا ندرس عند المطوع في أشيقر معي لوحي مكتوب فيه آيات من سورة المطففين، وكنت أقرأ وزميلي الشيخ عبد الله بن محمد المنيف، وبعد القراءة مرتين، قال سمِّع لي! فانغبنتُ لذلك, كيف أن اللوح تبعي وأنا الذي أقرأ وعبد الله المنيف هو الذي يحفظ!!
هذا هو المربي الخلوق الكريم أبومنيف الشيخ عبد الله بن محمد بن علي المنيف -رحمه الله, ولد في أشيقر عام 1353هـ وفقد بصره وعمره ثلاثة أشهر, وتعلم بعض أجزاء القرآن الكريم وبعض مبادئ العلوم الدينية في كُتَّاب أشيقر، ثم انتقل إلى الجبيل وأكمل حفظ القرآن الكريم ودرس شيئاً من العلوم الشرعية، ثم انتقل إلى الرياض عام 1372هـ حيث درس في معهد الرياض العلمي وتخرج 1377هـ، ثم التحق بكلية الشريعة عام 1378هـ وتخرج فيها 1381هـ 1382هـ, باشر التدريس في معهد الرياض العلمي1-5-1382هـ وبقي فيه حتى أحيل على التقاعد في 30-6-1413هـ وبعد تقاعده تعاقد مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على وظيفة داعية وعمل فيها عام 1415هـ موجهًا بفرع الوزارة بمنطقة الرياض، ثم أسند إليه الإشراف على اختبار الأئمة والمؤذنين في مدينة الرياض قبل تعيينهم، وما زال قائماً به حتى قارب الثمانين.
منَّ الله عليه بأن كان عضواً في التوعية الإسلامية في الحج والعمرة ينفع الحجاج ويرشدهم منذ عام 1405هـ، وما زال يسهم في إرشاد الحجاج وتوعيتهم كل عام تقريباً, حتى أقعده المرض, وقد كنت أراه في التوعية باذلاً نفسه -رحمه الله, وربما اجتمعنا في إحدى الغرف التي نجيب فيها السائل عن طريق الهاتف, ورأيت من تحمله وصبره شيئاً كثيراً -رحمه الله, وأذكر مرة زرته مع شيخنا الكبير عبدالله الغديان عضو هيئة كبار العلماء -رحمه الله؛ إذ انكسرت بعض أضلاعه إثر سقوطه -رحمه الله, وكان يريد أن يحج تلك السنة, فنصحه الشيخ عبدالله الغديان ألا يحج؛ إذ إنه بحاجة للراحة والعناية فلا يُكلف نفسه, ويتعب غيره, فأخذ بنصيحة الشيخ فلم يحج تلك السنة.
عُين -رحمه الله- إماماً وخطيباً بجامع الأمير محمد بن تركي بحي الشفاء وذلك عام 1390هـ وما زال حتى أرهقه المرض وأتعبه الكبر.
له مشاركات في الندوات والمحاضرات التي تُقام في المساجد والجوامع بمدينة الرياض وغيرها ومنها جامع الإمام تركي بن عبد الله.
وله جهود في التوجيه والإرشاد عبر الإذاعة والتلفاز, لو جمعت بعض تلك الندوات والمحاضرات واللقاءات في مؤلَّف لكانت والداً مُخلَّداً ما شاء الله أن يبقى, له أجره ما بقي الانتفاع به.
كان باذلاً لجاهه, يشفع للناس في قضاء حوائجهم, توفي -رحمه الله- ليلة الاثنين وصلي عليه عصر الاثنين الموافق 25-12-1440هـ, وامتلأ المسجد من المصلين, ودفن في مقبرة شمال الرياض, وكانت جنازته مشهودة صلاة ودفناً, وها قد ذهب الشيخ المربي الفاضل المنيف إلى دار الآخرة ونحن كلنا على أثره, وقد ظهرت الذكرى الحسنة بعد موته يتناقلها أجيال ممن درسوا بين يديه, وتعلموا منه, كما خلَّف مع ذكراه رجالاً حملوا اسمه وهم الكرماء منيف والحبيب معاذ وياسر وخالد, فرحم الله والدهم, وربط على قلوبهم, وجمعنا مع والدينا ومشايخنا وأحبابنا في جنة الفردوس.