وإذا أحب الله يوماً عبده
ألقى عليه محبة في الناس
صفاء الدنيا مهما أُعطي الإنسان فيها من سرور وسعة بال، وقرّةِ عين بوجود والدين وإخوة وأسرة.. وأحباء، فإن من سنن الحياة ألا يدوم ذلك أبداً، ففي صباح الجمعة الموافق 1440/12/12هـ فقدت أسرة آل تركي في حريملاء عميدها الشيخ عبدالعزيز بن ناصر التركي بعد عمر مديد شارف المائة عام، وهو بكامل قواه حافلة بطاعة مولاه وبالإخلاص في الأعمال المشرفة في عدد من المواقع:
إذا طال عمر المرء في غير آفة
أفادت له الأيام في كرها عقلا
وتمت الصلاة عليه -رحمه الله- بعد صلاة العصر في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض، ثم صلى عليه جمع غفير قبل إنزاله في مضجَعِه بمقبرة (صفيه) في محافظة حريملاء، ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال بنيه وهم يتابعون صّف اللبنات على لحد قبره بنظرات ملؤها الحزن العميق، ودمعات تهمي على تراب ذاك الجدث وبداخلهم ما به من لوعات الفراق، -كان الله في عونهم وعون أحفاده ومحبيه -تغمده المولى بواسع رحمته- ولقد ولد -رحمه الله- عام 1341هـ، وقد توفي والده وعمره 12 عاماً، فعاش في كنف والدته الحنون التي اهتمت به، وبرعايته لتخفيف وحشته وحزنه على فقد والده مُبكراً، ثم وجهته لتعلم القراءة والكتابة حتى ختم القرآن الكريم على الشيخ الفاضل محمد بن عبدالله الحرقان -رحمه الله- ولقد أجاد شاعر النيل حافظ ابراهيم القائل:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
بعد ذلك سافر إلى الرياض ماشياً على قدميه وعمره خمسة عشر عاماً، وعمل مدة يسيرة في مزرعة الأمير محمد بن عبدالرحمن بحي عتيقة والسويدي، ثم سافر مرة أخرى إلى الرياض وعمل في مزارع الملك عبدالعزيز لدى الوكيل المخلص سليمان بن عبدالعزيز الشعيبي، وكان معه مفتاح البستان الخاص بالملك عبدالعزيز- تغمد الله الجميع بواسع رحمته -، وفي عام 1373هـ سافر إلى الدمام ملتحقاً بأخيه الوحيد عبدالله - رحمه الله - الذي سبقه إلى هناك، وتعين إماماً لمسجد (الثقبة) لمدة سنتين، ثم انتقل للعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القطيف إلى أن تم نقله إلى الرياض واستمر في العمل نفسه إلى أن بلغ سن التقاعد، وكأني به إذا خلا بنفسه مستعرضاً شريط ذكرياته الحبيبة إلى قلبه مع شقيقه عبدالله في مدارج صباه، والعمل بالمنطقة الشرقية وما يتخلل تلك من ذكريات جميلة تقادم عهدها، مردداً في خاطره هذا البيت:
أُخيين كنا فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهر
بعد ذلك أنشأ مزرعته (العزيزية) في مسقط رأسه حريملاء وبنى بها سكناً له ولأولاده، وبقي متردداً بين الرياض وحريملاء، وكان -رحمه الله- سريع البديهة قوي الحجة، كريماً باب بيته مفتوح للحاضر والباد، وكان باراً بوالديه واصلاً لرحمه، يسأل عن الصغير والكبير، وربما ذهب إلى القريب الذي يُطيل الغياب عنه، فهو حريص على لمّ الشمل وجمع الكلمة، حاضاً على التآلف والتقارب مع أفراد العائلة، كما أنه راوية للشعر بمختلف أغراضه من حكم وأمثال ورثاء وغير ذلك، وكان له علم بالأنساب و نظرة فاحصة في الأشخاص، صاحب مروءة لا يتردد في المساعدة في أي ناحية من نواحي الحياة، ومُقدراً لكبار السن على وجه الخصوص، وقد سافر إلى الحج عام 1356هـ وعمره خمس عشرة سنة مع قافلة أهل حريملاء على الإبل، وكان بصحبة عبدالله بن إبراهيم الزريعي -رحمهما الله-، والذي تزوج ابنته نورة بعد ما سُر بنشاطه وأريحيته في خدمة رفاقه، وقد سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه الرجال، وكان محباً للعلماء والأدباء ويذكر دائماً مقولاتهم وآرائهم السديدة، ولقد عاش حياة كريمة، ومخلفاً ذرية صالحة بنين وبنات مؤهلين مؤهلات عالية ومتسنمين مناصب هامة، ولنا مع (أبو ناصر) ذكريات جميلة لا يتسع المجال لبسطها -تغمد الله الفقيد بواسع رحمته- وألهم أبناءه وبناته وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.
** **
عبدالعزيز بن عبد الرحمن الخريف - حريملاء