د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنت قد تحدثت في مقالات سابقة عن التحيز في الأدب، وهو الذي يكون فيه الموقف في المقام الأول من الأديب نفسه موقفاً متحيزاً بسبب لونه أو جنسه أو ميوله السياسي، كما في الشواهد والأمثلة التي ذكرتها في تلك المقالات دون أن يكون الحكم صادراً على نص أدبي بعينه أو بسبب ظاهرة نصية، وإن كان في بعض الأحيان لا يخلو من موقف نقدي من النص، في حين أن التحيز النقدي يتصل بالمقام الأول بالحكم الجمالي على النص الأدبي، فيكون الحكم صادراً من المتحيز بالاستنكار أو الاستهجان لما ورد في النص الأدبي، مصحوباً بتعليل، ولابساً لبوس الموضوعية.
يظهر هذا جلياً في الحكاية المشهورة، وفيها أن ابن قيس الرقيات وفد على عبد الملك بن مروان، فأنشده:
إن الحوادث في المدينة قد
أوجعنني وقرعن مروتيه
وجببنني جب السنام ولم
يتركن ريشاً في مناكبيه
فقال عبد الملك: أحسنت، لولا أنك خنثت في قوافيك. يقصد أن الياء المتبوعة بهاء السكت ضعيفة. وواضح ما في كلمة «خنث» من إيحاء غير جميل يتجاوز البعد النقدي الجمالي إلى محاولة إلحاق هذه الصفة القبيحة بالشاعر.
خاصة وأننا نعلم أن للخليفة موقفاً من الشاعر لانضمامه إلى شعراء مصعب ابن الزبير، ومدحه إياه بقصيدة معروفة، وقد صرح عبد الملك بذلك حين رد على قوله:
يأتلق التاج فوق مفرقه
على جبين كأنه الذهب
قال: ما زدت على أن وصفت اعتدال التاج فوق جبيني الذي هو كالذهب في النضارة، وكان قد قال: إنه أعطى مصعباً المدح بكشف الغمم وجلاء الظلم، يشير إلى قول ابن قيس الرقيات:
إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
ولا يصح القول إن حكم عبد الملك مبني على قيم فنية بحتة، فنحن نجد في حكاية أخرى لعبد الملك ما لم يصرح به هنا، ففي شرح ابن حبيب لديوان جرير أن عبد الملك حين استقبل الشاعر جريراً مع محمد بن الحجاج رفض أن يسمع شعره فيه، واستنشده شعره في الحجاج، وقال له: أنت شاعر الحجاج، ونحن -بني أمية- شاعرنا الأخطل، ثم أمر الأخطل أن يركب ظهر جرير كما يركب الحمار لولا تشفع الحاضرين، فأمر به فأخرج من المجلس، ولم يعد إلا بعد ثلاث ليال كما يقول الخبر.
فموقف عبد الملك من جرير بناء على الخصومة التي بينه وبين الأخطل، وبما أن الأخطل شاعر بني أمية منذ هجائه للأنصار في قصته مع يزيد بن معاوية المشهورة فإنه رأى أن قبوله مدح جرير، وإظهار الإعجاب به وهو في خصومة مع الأخطل يخالف الصلة الخاصة بين بني أمية والأخطل، ولأن الأخطل شاعر بني أمية وجرير شاعر الحجاج وبنو أمية أعلى طبقة من الحجاج، فإن الحكم النقدي يكون لشاعر الخليفة على شاعر الحجاج.
وعلى هذا المنظور يكون موقفه من شعر ابن قيس الرقيات معتمداً على أنه في الأصل شاعر مصعب، ولذا فإن شعره فيه أحسن من شعره في عبد الملك الذي لا يريد أن يسمع شعر ابن قيس الرقيات ولا يستحسنه، وإذا فعل ذلك فسيقبحه. ويؤكد هذا أننا حين نعيد النظر في ملاحظات عبد الملك النقدية لا نجدها تثبت عند التمحيص، فرد ابن قيس الرقيات على قوله: «لقد خنثت في قوافيك»، بقوله: «ما عدوت قول الله عز وجل: «ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه» وجيه، وإن كان النقاد اللاحقون تبنوا موقف عبد الملك، فإن الياء المتبوعة بهاء السكت في قافية أبيات ابن قيس الرقيات مناسبة في المقام، فهي وإن كانت ليست مشهورة في الشعر، فهي بمثابة الآه التي يختم فيها بيت الشكوى من الحالة البائسة التي يعيشها، فيخرج في نفسه ما استقر في صدره من كآبة الحزن والحسرة.
ومثل هذا يكون القول في البيت الآخر الذي يصف فيه الشاعر التاج على جبين عبد الملك، فاستقرار التاج على رأس الملك، ونظارة النعمة مما يمدح به الملوك، وليس بعيداً عن هذه الصفات الأبيات التي مدح فيها حسان بن ثابت ملوك الغساسنة، وفضل فيها على نابغة بني ذبيان:
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
فلم يقل له عمرو بن الحارث: ما زدت على أن وصفتني ببياض الوجه، وهي صفة تمدح بها النساء، ثم إن الحديث عن التاج في هذا المقام يتجاوز معناه الحرفي إلى الدلالة الرمزية على استقرار الملك، واكتماله، ومضي أمر الملك، وهو ما لم يكن لمصعب الذي كان والياً على العراق لأخيه عبد الله، فهو بمنزلة الحجاج، فكان ابن قيس الرقيات يريد أن يقف على ما يميز عبد الملك عن غيره من الممدوحين وهو التاج، ويذكره بالفارق بينه وبين غريمه عبد الله بن الزبير حيث استتب الأمر له واستقام على خلاف غريمه الأول، وهي معان تدل على مقدار التوفيق الذي حازه الشاعر في بيته.