د. عبدالحق عزوزي
الأرقام التي نشرتها مؤخرًا منظمة الصحة العالمية في تقريرها عن ظاهرة الانتحار حول العالم مقلقة وخطيرة جداً؛ فقد جاء في التقرير أن شخصاً واحداً ينتحر كل 40 ثانية، ليصل العدد، طبقاً للتقرير إلى 800 ألف شخص سنوياً أي أكثر من الذين قتلوا في الحروب وعمليات القتل أو سرطان الثدي.
وأظهر التقرير أن أكثر من نصف المنتحرين في العالم أجمع هم دون سن الـ45. وفي فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً، يأتي الانتحار في المرتبة الثانية بعد حوادث الطرق كسبب رئيسي للوفاة. ومن أكثر طرق الانتحار شيوعاً هي الشنق وإطلاق النار وتناول المبيدات السامة خصوصاً في المناطق الريفية.
والذي يثير الانتباه في هذا التقرير هو أن البلدان ذات الدخل المرتفع لديها معدل أعلى لحالات الانتحار أكثر من غيرها من البلدان ذات الدخل المتوسط.
واعتبرت إحدى المختصات الدكتورة سهير لطفي، الرئيسة السابقة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية لقناة فرانس 24 الفرنسية أن ظاهرة الانتحار هي سلوك فردي سلبي قديم يستخدم دائماً كوسيلة سلبية لمواجهة الأزمات الحياتية. وبما أنه سلوك فردي فيختلف بطبيعة الحال من حالة إلى أخرى كما تختلف معها العوامل المؤثّرة في الفرد بذاته، مثل الاضطراب النفسي أو عدم الثبات الوجداني وغيرها. وترجع المختصة ارتفاع نسب الانتحار في البلدان المتقدمة عن غيرها من البلدان ذات الدخل المتوسط، الأمر الذي أكده التقرير، إلى أن اختلاف الثقافات والضوابط الدينية والإيمان بالغيبيات غالباً ما يؤثّر على السلوك الشخصي للمقدم على الانتحار، فمن شأنه أن يجعل منه شخصاً «اتكالياً» يرضى بالأمر الواقع، ولكن حين تتراكم الأزمات الاجتماعية الضاغطة على الأفراد تبدأ فكرة الانتحار تراود الشبان كمخرج سلبي سريع من الأزمة.
وأما فيما يخص انتشار الظاهرة وسط الشباب، فسرت الدكتورة لطفي الشريحة العمرية، قائلة أن كلمة «جرب» هي الأسهل بين الشباب، كما أدى انتشار ثقافة التمرد على المجتمع وإثبات «رجولتهم» إلى اللجوء للانتحار ...
وقد أصدر هذا التقرير موازاة مع حديث الساعة في فرنسا عن العنف الزوجي، إذ تقول الأرقام إن 101 فرنسية قتلت على أيدي شركاء حياتهن في 2019. وهذا رقم مخيف جدا لأنه يوحي لك بأن هاته الأرقم تعطي لك حقيقة أخرى غير مذكورة وهي تلك المتعلقة بالنساء اللواتي يتعرضن للجرح والضرب والمآسي النفسية وهي أرقام ستكون لا محالة بالآلاف ...
وقال رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب «اليوم في بلدنا، تموت مواطنات لنا خنقاً أو طعناً أو بحرقهن أحياء أو تحت الضرب، بواقع كل يومين أو ثلاثة». وفي أوروبا، تُصنف فرنسا من بين أسوأ البلدان على صعيد عدد النسوة اللواتي قُتلن على يد أزواجهن، مع 0.18 ضحية لكل مئة ألف امرأة، وفق آخر الأرقام المعروفة الصادرة عن هيئة «يوروستات» الأوروبية في 2017. وهذا المعدل أعلى من سويسرا (0.13) وإيطاليا (0.11) وإسبانيا (0.12)، لكنه أدنى من ألمانيا (0.23).
الحكومة الفرنسية في مسابقتها للزمن تحاول الخروج بإعلانات قوية للتأكيد على رغبتها في إيقاف عنف الرجل ضد المرأة والذي نجحت حكومات أوروبية عديدة، منها إسبانيا، وفق تصريحات مارلين شيابا، سكرتيرة الدولة من أجل المساواة بين النساء والرجال، في لجمه، إلى أبعد الحدود.
ولكن عند متابعتنا للنقاش العام الدائر في الأوساط الإعلامية والمجتمعية الفرنسية، بل والغربية قلما نستمع إلى الأسباب المجتمعية الدفينة والحقيقية التي هي من وراء هذا العنف الأسري ولا وراء هذا الانتحار؛ فلا توجد دراسات سوسيولوجية علمية دقيقة تمكن من فهم الظاهرتين علماً أن رافعي راية الحضارة الغربية دائماً في الحوارات العلمية مع «الآخر» اللا غربي يمدح ويمجد المستوى الحضاري للعلاقة بين الأفراد داخل مجتماعتهم وبالضبط بين الأزواج وفي العلاقات الأسرية ومستوى السعادة الداخلية والخارجية التي وصلت إليها الدول ذات الدخل المرتفع.
ولكن عندما تلج العالم الغربي في داخله ستجد مفارقات جمة وحقائق مخيفة ومرد ذلك حسب يقيني إلى فشل منظومة القيم والتربية والتعليم لأن الحداثة ليست بناء وعمراناً وذكاء اصطناعياً ووصولاً إلى القمر وإنما يجب أن تكون أولاً وقبل كل شيء علاقات إنسانية وإيماناً ويقيناً ونكراناً للذات وحباً للآخر وبناء للأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك ويجب أن تكون الضوابط المجتمعية والثقافية قائمة على التآزر والتآخي لا على الفردانية المجحفة ولا على الإلحاد القاتل.