أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: ثمَّة شيء يسمونه (التفويض المطلق)؛ أي تفويض من قبل الشعب كافةً؛ وأهل هذا التفويض يحتج بعضهم بالسيرة الكريمة في أحكام الشرع المطهّر؛ ولجلاء الحقيقة: أذكر السيرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام؛ فأمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أشار إلى أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيّين على أفضل من أبي بكر، وقال صلى الله عليه وسلم: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر؛ ولا منازع له من الصحابة رضوان الله عليهم؛ وهم يعلمون بإجماع: أنّه لم يشرب خمراً في الجاهلية، وأنّه ينهج منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحنّث، ولم يعبد صنماً؛ إذن لقد كانت بيعة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ذوي الحلّ والعقد الحاضرين في دار الخلافة فقط؛ وهي المدينة المنورة، ثم لزمت البيعة من غاب في الآفاق؛ وأهل الحلّ والعقد هنا هم المعتدّ بهم شرعاً؛ فهم زعماء الأمة بشرطي العلم الشرعي والعدالة؛ وهم على علم حسّي معايش بأنّ الصديق أبا بكر رضي الله عنه هو المراد من قبل رسول الله صلى الله وسلم بإشارات لا مجال لاستقصائها، ثم ولي الأمر عمر بن الخطاب بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما، وعدم معارضة ممّن حضر من أهل الحل والعقد في دار الخلافة؛ فلزمت البيعة من غاب في الآفاق، ثم عهد عمر رضي الله عنه بالأمر إلى ستة من أهل الحلّ والعقد، ولم يعهد إلى انتخاب الغوغائية، وجعل ابنه عبدالله رضي الله عنهما حكماً ليس له من الأمر شيء؛ ليطبّق مبدأ التصويت من قبل الباقين الستة؛ فشرح الله صدر عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى أن يسقط حقّه في الانتخاب على أن يلتزم الباقون بمن يرشّحه هو؛ فاتصل رضي الله عنه بكلّ من قدر على الاتصال به في دار الخلافة بما في ذلك العجائز؛ فتمّت البيعة لأحد اثنين اتّفق عليهما أهل دار الخلافة؛ وهو عثمان رضي الله عنه.. ثم هاج أفراخ من الزنادقة الموتورين مع همج البادية من سواد الكوفة التي أسّسها بأمر من عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف رضي الله عنهما؛ فراسلوا كلّ من كان في غمارهم ممّن بثّوهم في الآفاق.. وبعد تزوير الرسائل على عثمان وعلي رضي الله عنهما (وقد نفيا في حياتهما أن يكونا على علم بما زوّر، وبيّنا أنّ التواقيع مزيّفة)؛ فبايع أهل دار الخلافة بعد مقتل عثمان علياً رضي الله عنهما؛ لأنّه المرشّح الثاني بعد عثمان رضي الله عنهما؛هذا أفضل نموذج في تاريخنا الإسلامي ليس فيه انتخاب الغوغائية؛ وهو نموذج الحكم تحمّلاً وأداءً؛ ثم ظلم عليّ رضي الله عنه، ونوزع في حقه الثابت شرعاً، وأفرخت فتن الزنادقة من أهل الكتاب الذين رحلوا من نجران؛ وهم فرقة مذهبية من الموالي الموتورين.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد تحوّل من بعد علي رضي الله عنه أمر الخلافة إلى مسألة التفريق بين الحكم تحمّلاً وأداءً؛ فأخذها معاوية غلبةً، وتخلّى الحسن رضي الله عنه عنها رحمةً بالمسلمين، وقطعاً لدابر الفتنة، وخوفاً من تحوّل مصر إلى دولة سهمية، والشام إلى دولة أموية، والحجاز إلى دولة يتنازعها بنو هاشم وآل الزبير؛ وتحوّل عراق العجم والعرب إلى دويلات، وفرق مذهبية وعرقية لا تريد للعرب والمسلمين خيراً.. هذا مستوى الحكم، ولي عودة إلى هذا النظام المبارك فيما يتعلَّق بالشورى المطروحة ابتداءً، والاستشارة التي تأتي عن طلب، وكلّ ذلك سيصحب ببراهينه الشرعية والفكرية إن شاء الله تعالى؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.