الرياض - خاص لـ«الجزيرة»:
من الصفات السيئة المشينة التي حذَّر منها رسولنا الكريم -عليه أفضل الصلاة والسلام- الأنانية «الأثرة»، وهي السلوك المذموم الذي تشمئز منه النفوس الراقية.
وفي زمن المصالح والماديات كثرت تلك الصفة السيئة في المجتمع حتى وصلت إلى ذوي القربى، وهو ما يخالف التعاليم الإسلامية والأعراف الاجتماعية في التعاون والتعاضد بين الناس.
«الجزيرة «طرحت تلك القضية على عدد من أهل الرأي في مختلف التخصصات لمعرفة الأسباب، وتقديم الحلول الناجعة للحد منها وتحجيمها، وهل هي مرض أم سلوك متأصل، وكانت الحصيلة التالية:
الآثار السلبية
يقول الدكتور محمد بن علي الصالح وكيل عمادة شؤون الطلاب بجامعة الملك سعود بالرياض: الأثرة أو ما يُسمى بالأنانية باللغة الإنجليزية selfishness تُعَدُّ من الصفات الخُلقية المذمومة التي نهى عنها الدين الإسلامي الحنيف وحذَّر منها ومن عواقبها في الكثير من الآيات والأحاديث الشريفة، ولكن ما هو تعريف الأثرة أو الأنانية؟ هي أن يستأثر الشخص بنفسه مصالح.. أيًا كانت دنيوية.. دون غيره رغم أحقية وأهلية الآخرين بهذا الأمر، سواء كان ذلك منصبًا أو جاهًا أو وظيفة أو مكافأة مالية أو غير ذلك دون وجه حق فقط. أو أن يعطي أشخاصًا آخرين لقرابتهم أو معارف أو ما شابه ذلك منافع ليسوا بأهلها فقط لمعرفتهم. وللأثرة (الأنانية) أضرار على الفرد والمجتمع، فإنها إن شاعت شتت المجتمع وتفتته، وتثير الفتن وتفقد المجتمع تماسكه، وتظهر الضغينة والبغضاء بين الأفراد والجماعات مما يؤدي إلى ضعف المجتمع ويفقد أهم خصلة له وهي تماسكه وتوحده في وجه المتربصين به. كما أن من آثار الأثرة السلبية أنها تحل النقم وتذهب بالنعم ويسود الظلم الاجتماعي بالمجتمع، وهي معول هدم وصفة ذميمة تنم عن دناءة النفس ورداءة الأخلاق، ونحن في زمن غلبت فيه الأنانية والأثرة لأسباب من أهمها غياب التربية الحقيقية في المنزل والمدرسة وعدم وجود القدوة الصالحة التي تضرب أروع الأمثلة في هذا الأمر، وكذلك البُعد عن تعاليم الدين الحنيف الذي يحث على المساواة والعدل دون المجاملات والواسطات التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومن أهم الأسباب التي تعين -بعد الله- في التخلص من هذه الخصلة الذميمة هو العودة إلى كتاب الله وتدبر آياته وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وزرع التربية الصالحة في الأطفال الصغار وتعليمهم حب البذل والعطاء والمساواة في البيت والمدرسة على حد سواء، وكذلك حث وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمشاهدة ووسائل التواصل الاجتماعي على نشر ما يفيد المجتمع وتحذيره مما يفككه وينهكه، ويبين الخصال الحميدة التي يجب أن يتحلى بها المواطن الصالح وينشأ عليها ويكون قدوة صالحة لأبنائه ومجتمعه من خلال برامج حوارية أو مسلسلات هادفة أو اسكتشات قصيرة أو انفوجرافيكس أو غيرها تعطي رسائل هادفة تغرس ثقافات جميلة في قلوب النشء. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لعمل الخيرات واجتناب الخصال السيئة.
حسن الظن
يقول الشيخ راجس بن أحمد الدوسري نائب رئيس لجنة الأوقاف بغرفة الرياض: جُبلت النفوس على حب المال وعلى طلب العز والمجد، وهذه الغرائز ما لم يتم تقويمها بالتربية والتوجيه وتعزيز الإيمان من جهة والتنظيم والحوكمة من جهة أخرى، وهاتان الركيزتان أساس تكوين المجتمعات الصحية، فالنفوس التي تربت على الإيمان وحفظ الحدود والتسامح والعطاء والبذل لا تقبل سلوك سبيل الاعتداء والظلم، والنفوس التي امتلأت جشعًا وأنانية سيبقى المجتمع مسئولاً عن بناء التنظيمات الكافية والمنهجيات الوقائية التي تحفظ حق الضعيف قبل القوي، والمتأمل اليوم لقضايا المحاكم سيجد خلافات الأقارب أكثر من خلافات الأباعد بسبب تغليب حسن الظن وعدم الاتجاه للتنظيم، فتكون التركة غير المنظمة سببًا لنقمة العائلة بدل سعادتهم، ويكون عدم التوثيق سببًا لحرمان فئة واستئثار فرد أو أكثر بمنفعة جماعة، لذلك نجد المجتمعات تتمدن وتستفيد من أخطائها فتنشئ الشركات العائلية والصناديق العائلية وتنظم التعامل مع التركات بشكل يضمن حفظ الحقوق وعدم تغلب القوي على الضعيف والولي على من تحته، والوصي على ما في يده بالغش والحيلة وباسم النظام والعرف الاجتماعي، كما تجد الفرد الواعي يكتب الوصية وينشئ أسرته على العطاء. فالنفس التي تتعود البذل لا تستأثر ولا تعتدي، وهذه المنهجيات الواعية على مستوى الفرد والجماعة تحد من الظلم وغلبة ضعاف النفوس.
تربية النفوس
ويرى الدكتور خالد بن عبدالقادر الحارثي المستشار الاجتماعي أن النفوس فُطِرَتْ على الشُّحّ، قال تعالى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ}، ويعني ذلك بأن مدافعة (الأنا) من أعمال جهاد النفس عند المؤمنين بقضاء الله وقدره، لأن الذي يؤمن ويستيقن بأن الرزق مكتوب في الأزل أُعطِي منه أم حُرِّم لابد وأن تكون نفسه زكية وتتطهر من الأنانية، على أنَّ بعض أرباب الأُسر يُؤثرون المال وربما حتى المعاملة الحسنة يمنعونها تلبية لشهواتهم الخاصة دون مراعاة حاجة من يُعيلون إلى ذلك، إما لِجَهْلهم أو لخشيتهم من الفقر والعيلة مع أن الله تعالى قال في محكم كتابه {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، ومع أن المال عصب الحياة وفقده مصيبة غير أن الأنانية في إمساكه أقل شناعة من الأنانية في إمساك المعاملة الحسنة، ففقد المال قد يكون له أسباب يُعذر صاحبها لكن فقد المعاملة الحسنة لا يُعذر صاحبها إلا بتكلف شاق، والمجتمع الحضاري يتطلع دومًا للارتقاء بالأفراد لترتقي الجماعة، ومن حُسن الطالع أن يكون الفرد صاحب مبادرة وعطاء وقد وصّى عليه الصلاة والسلام بالصدقة ولو بِشِقّ تمرة! تربية للنفوس المؤمنة المطمئنة وتصفية لها من شوائب الشُّحّ.. إذاً فالصدقة أول مفاتيح النفس الشحيحة، ثم البحث عما يُنمّي هذا الشيء الذي يشحّ به صاحبه، لأن البحث والعمل يدعوه للانخراط في منظومة الاجتهاد وجهاد النفس ويدعوه للاستيقان بتجدد حصول البديل لكل ما ينفق من مال أو أخلاق وأنها لن تتوقف الحياة وينتهي ما يملك إذا اشترك فيه معه من يستحق، وأن القعود عن الاجتهاد ومجاهدة النفس ومراقبة ما يُصرف تحت يديها لابد وأن يمنع صاحبها من التقدم نحو المجتمع الذي هو لبنة فيه ويظل ينظر لنفسه نظرة رأسية لا أفقية، وتحجّر نفسه يرمي به آخر الأمر للبقاء وحده وتنفضّ الخلائق من حوله فما ينفعه مال شحّ به أو خُلُق كريم مَنَّ به على أخيه المسلم؟! وباعتقادي لدى المحصلة النهائية أن الذي يُحسن عمله الذي بينه وبين الله لا يمكن أن يخشى الفقر والعِيلة أو الوحدة والضياع مهما دفع أو أمسك.
طمع وجشع
وتبين الأستاذة ابتسام بنت عبدالرحمن الباحوث الرئيس التنفيذي لمجموعة بيت رفال: أن كثيرًا ما يكثر النقاش حول الأنانية هل هي خُلق فطري أم طبع مكتسب؟! وهو أمر قد نجد له مبررات مقنعة أحياناً، إذ يظهر في مجموعة من الناس دون غيرهم بكثرة مما يجعلنا ننزع لكونه وراثيًا، كما أنه قد يظهر عند بعض الأطفال دون سن التوجيه مما يؤكد فطريته، ولكن المتفق عليه أنه خلق رديء، وذلك لما يجلبه لصاحبه من طمع وجشع واحتكار وحسد وكيد وظلم ومنافسة غير شريفة وغيرها ممَّا يوصل إلى الجرائم والموبقات ممَّا تمقته المبادئُ والقيم الدينيَّة والإنسانيَّة، ويحذر منه ديننا الحتيف. والأنانيَّة داءٌ مدمِّر لصاحبها في الدنيا وسيحاسب عنها في آخرته، قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، سورة الحشر، آية رقم 9.
الشعور بالنقص
وتؤكد الأستاذة سمر بنت مهنا الصايل عضو المجلس التنفيذي لشابات الأعمال بالمنطقة الشرقية أن الأنانيين لديهم مركب نقص، وهناك أناس لا يستطيعون العيش في الحياة ويشعرون بالنقص والحسد، ودائمًا يتمنون ما لدى الآخرين، ويحصدون ما يزرعه غيرهم، ويجنون ثمار ما تعب فيه الناس وبذلوا في سبيله العرق، ويسرقون جهود الناس ونجاحاتهم.. إنهم كالنباتات المتسلقة لا تستطيع أن تشق طريقها إلى عنان السماء إلا بالحسد ونظرة النقص، الأنانية آفة ذميمة، صاحبها صاحب نفس صغيرة، ذو عيون عمياء لا يرى إلا نفسه، أهدافه تخدم منفعته الخاصة فقط اعتمادًا على غيرها.. فهي ترتفع مع الأشجار العالية والنخيل الباسقة، وتقصر مع الأشجار القصيرة، وتعيش على الأرض إذا لم تجد ما ترتفع عليه، ولذلك يُسمى هؤلاء المتسلقون، وما أدراك ما المتسلقون؟ إنهم أناس محترفون يظهرون في أماكن النجاح وأوقات الفوز ليخطفوا الأضواء من أصحاب الجهد الحقيقيين؛ يُقال إن أردت أن لا يُسرق منك شيء ضعه في كتاب.. فهذهِِ الأمه لا تفتح كتاباً.
حب النفس
وحمدت الأستاذة رنا سالم المذيعة بقناة الإخبارية الله الذي أكرمنا بنعمة الإسلام وحبانا بسيد الأمة ورسولها محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالإسلام هو دين سلام وأخلاق وكغيرنا من أبناء وبنات جيلنا حرص أهلنا على تربيتنا وفق مبادئ ومفاهيم جميلة تربوا عليها، وإن اختلف الزمان والمكان من حسن الخلق والكرم والإيثار وغيره من سمات ديننا الإسلامي. والملاحظ في الآونة الأخيرة بشكل واضح انتشار سلوك أكثر ما نستطيع قوله إنه يتسم بالأنانية من حب النفس وتفضيلها مما يضر بالآخرين، والأدهى والأمر أن هذه الصفة أصبحت لدى القريب قبل البعيد وخاصة من صغار السن (جيل المستقبل)، فانتشار وسائل السوشل ميديا بمفاهيمه المغلوطة له دور كبير في ظل غياب التوجيه من الأهل والمدرسة والقدوة في عصر متسارع جل ما نحتاج إليه هو زرع المفاهيم الإسلامية الصحيحة والمعتدلة لجيل يعيش عصر العولمة بكل إيجابياتها وسلبياتها.