لا شك في أن كتاب الله تعالى فضله عظيم، وخيره عميم، ونهجه قويم، وقد أدرك سلفنا الصالح فضله ومكانته في الدنيا والآخرة، فعكفوا عليه تلاوة وحفظًا ومدارسة وتعلما، وتعليما وإقراءً وتفسيرًا وتبيينًا، وبذلوا في ذلك أقصى جهدهم، فسعدوا في الدنيا والآخرة، واستفادت الأمة من بعدهم بجهودهم التي أخرجوها من الصدور ودونوها في السطور. وعبر تاريخ الأمة الإسلامية توجد صفحات ناصعة من جهود السابقين في مجال تحفيظ القرآن وتعليمه للناشئة في جميع أعمارهم، حيث زخرت الأمصار الإسلامية بالكتاتيب ومراكز تحفيظ القرآن في المساجد وغيرها، وتعددت مناهج المحفظين وأساليبهم، وتربى على أيديهم أجيال من العمالقة من العلماء. وفي العصر الحاضر سعى المخلصون في البلاد المختلفة سعيًا حثيثا لخدمة كتاب الله عز وجل، فأنشأوا الكراسي المتخصصة في القرآن وعلومه، ونشروا مدارس تحفيظ القرآن الكريم ومراكزه في شتى ربوع الأقطار الإسلامية، لينهل من معينها الأطفال من الذكور والإناث، ونشأت طرق عديدة لتحفيظ القرآن الكريم، وتعد المملكة العربية السعودية رائدة في هذا المجال حيث نزل القرآن الكريم على أرضها في ربوع مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ويعتبر تدريس القرآن الكريم وتحفيظه عنصرا أساسيا من عناصر تدريس العلوم الشرعية وأبرز مقوماتها، ومما لا شك فيه أن دراسة الناشئ للقرآن الكريم تنجم عنها آثار إيجابية تعينه في حياته العلمية، فضلا عما يناله من الأجر الجزيل والثواب العظيم، وما تتغذى به روحه من الإيمان، وقد أكد ابن خلدون (ت 808هـ، ط 1419هـ) هذا الأمر في مقدمته بقوله: «والقرآن هو أول العلوم التي يتعلمها الصبي لأن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارها لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل من بعد من الملكات، وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده».
وبالنظر إلى واقع مخرجات مدارس التحفيظ وأثرها على الأفراد والمجتمع نجد أنها خرجت عدداً كبيراً من العلماء والمسؤولين والمفكرين والمثقفين والأطباء والمهندسين وغيرهم من صفوة المجتمع، وأن القائمين على هذه الجمعيات والمدارس هم من الكفاءات التعليمية والتربوية المعروفة بالصلاح والتقوى والاعتدال وليس بينهم واحد متهم بالغلو والتطرف، إضافة إلى أن مناهج التعليم والتدريس في هذه المدارس تخضع للإشراف والمتابعة من قبل الجهات الحكومية المختصة، كما أن عددا كبيراً من خريجي جمعيات ومدارس التحفيظ هم من العاملين في مجال الدعوة وفق تعاليم الشريعة ومنهج السلف الصالح، خاصة، وأن أغلبية حفظة القرآن الكريم من خريجي هذه المدارس يعدون من النماذج المشرفة في سلوكهم وأخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين.