د. محمد بن إبراهيم الملحم
مسألة العنف في المدارس ليست أمرا مستغربا، ويبدر هذا السؤال: ما مصدر هذا العنف؟ تطرف الأطفال هو انعكاس لتطرف المجتمع حولهم، وأول وحدة أساسية في مجتمع الطفل هي أسرته ثم الحي الذي يعيش فيه وكذلك أسرته الأكبر حجما والمدرسة التي يمضي بها ثلثي يومه.
أغلب المعلقين يتهم المدرسة ويرميها بالتقصير عند حدوث عنف بالمدرسة، والواقع أن هذا إجحاف وقصر نظر في تقييم مسألة عنف الأطفال، فعلى الرغم من أهمية دور المدرسة إلا أن الأسرة هي المسؤول الأول عن السلوك وخاصة السلوك المتطرف، ومشكلتنا هي ليست في وجود مثل هذه الأسر ولكن في عدم وجود جهات تتعامل مع هذه الأسر، فنظرة مؤسسات المجتمع نحو الأسرة أن لها خصوصيتها التي لا تمس خاطئة تماما، بل ينبغي أن يتم التعامل مع السلوكيات المتطرفة أو المهدِّدة ووضع قوانين تجرِّم التعامل الأسري المهمِل أو المتطرِّف في السلوك، وأي عنف يقع في المدرسة يجب أن يتواجد فيه بجوار الشرطة أخصائيون في علم النفس السلوكي لبحث حالة الطالب والتحقيق في كل العوامل التي يمكن أن تكون سببا في نشوء سلوكه العدواني أو العنفي المهدد للآخرين، ويشمل ذلك الأسرة والجيران والأقران وحتى المعلمين، وعند التعرف على السبب الرئيس وحصر المسئولية الأولى في أحد هذه الأطراف فيجب أن يعمل القانون على إيقاع العقوبة ووضع الحلول لحماية الطفل من مزيد من الانحدار.
سأقدم لكم التجربة الدولية التي لدي شبه إلمام بها في هذا الشأن وهي حالة المجتمع البريطاني حيث مؤسسات الدولة تهتم بالطفل في المقام الأول إذ يوجد تحت وزير التربية نائب وزير بمسمى وزير الدولة للأطفال والأسر Minister of State for Children and Families
حيث يرعى كل ما يختص بالطفل ومن ذلك حماية الطفل ممثلا في ما يسمى بالخدمات الاجتماعية، وفي مثل حدوث عنف فإن محققين مختصين في علم النفس من الخدمات الاجتماعية سيساهمون مع الشرطة في بحث الحالة والتوصل إلى استنتاجات حول مصدر السبب في هذا العنف ونتائجهم ليست استرشادية كما هو الحال عندنا (عندما يتم تنفيذ شيء مثل هذا) وإنما هي معرّفة بالقانون ونتيجتها محسومة وهي إجراءات نحو الأسرة تصل إلى درجة سحب الطفل من الأسرة، وهي آخر درجات المعالجة (أو العقوبة) حيث يكون سحب الطفل أبديا طبعا ويسلم لأسرة أخرى تتبناه، وبالإضافة إلى ذلك ستوضع الأسرة أو أحد الأبوين الذي هو مصدر العنف تحت المراقبة الاجتماعية ويطالب بحضور برامج تدريبية، وكل هذا إلزام وليس خيارا وإلا واجه عقوبات مشددة، الخدمة الاجتماعية يمكن أن تتدخل في وقت مبكر نحو مثل هذا الطفل لو لمحت المدرسة مظاهر العنف لديه وحاولت إصلاحه فلم يجد فتبلغ هؤلاء ليتم حضور مختص سيكلوجي ويبدأ بإجراءات لمعالجة الأمر وقد يصل إلى احتياجه زيارة الأسرة وإجراء تحقيق شامل حول سلوكها.
وزارة العمل والتنمية الاجتماعية لدينا هي المظلة الرسمية لمثل هذه الخدمات لكنها لا تقوم بهذا الواجب كما نطمح إليه، مراكز الحماية التي أطلقت مؤخرا هي لمعالجة الحالات التي ترد إليها من المشتكين لكن هناك مئات الحالات لا تصل وينبغي توافر قنوات أكبر وأشمل وتدريب مئات من المختصين ليقوموا بالدور الإرشادي الشامل ويتحقق الارتقاء بالأسرة السعودية وحماية الطفل من التنشئة المشوهة، كما ينبغي تطوير خدمات وزارة الشئون الاجتماعية لتضاهي ما هو في العالم المتقدم، لاشك أن ديننا يدعونا إلى التكافل والترابط ومساعدة بعضنا بعضا، ولكننا اليوم وقد اتسعت البلاد وازداد السكان ودخلت قيم اجتماعية جديدة وتراجعت قيم اجتماعية أخرى أصبحنا بحاجة ماسة إلى خدمات اجتماعية نوعية وشمولية تنتشر في كل حي وكل مدينة لا مجرد فرع للوزارة ومركز أو مركزين متخصصين فهذا لا يكفي، أعتقد أن وزارة التنمية الاجتماعية ينبغي لها الانتشار بمدى يقارب انتشار وزارة التعليم في مدن المملكة وأحيائها، والمسألة لا تتعلق بالسلوك فقط بل هناك الحالات الإنسانية الصعبة والتي تتطلب تدخل الخدمات الاجتماعية للحفاظ على الأطفال ولو حتى حين لكي تضمن لهم ملاذا آمنا من أية مؤثرات سلبية على نفسياتهم وتفكيرهم وسلوكهم.
أتمنى أن تبدأ هذه الخدمة بالاستفادة من العدد الكبير من المعلمين المتقاعدين مبكرا فيتم تدريبهم على علم النفس السلوكي ومنحهم ترخيص للمهنة لا يعطى إلا بعد سنة التجربة حيث يتمكن من تنفيذ العمل بفعالية وحكمة ونجاح في المحافظة على أخلاقيات المهنة الإرشادية ومواصفاتها بأفضل الممارسات الدولية، وأنصح الوزارة الكريمة بتجربة ذلك عن طريق مراكز محدودة في عدد من المدن ثم توسعة المشروع إلى قطاع كامل في الوزارة، وأني واثق أن الدولة لن تقصر في إحداث هيكل ووظائف لهذا القطاع إذا نجحت الوزارة في تجربتها الأولى وأثبتت جدارتها في المتابعة وحسن التنفيذ ولمس الجميع المنافع الاجتماعية المتحققة ولو كان أقلها أننا لن نرى طفلا قاتلا في مدارسنا وستختفي السكاكين من جيوب الطلاب.