د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
أعلمونا في مراحل الطلب «ألّا شيءَ يفنى وأن كلَّ شيء يتحول»؛ فكذا حكوا عن «المادة» التي لا تجيء من العدم ولا تذهب إليه، ثم قرأنا «لغز الموت» كما أسمى كتابَه الدكتور مصطفى محمود 1921 - 2009 م ففتح كوةً في أذهانٍ ناشئة، ووعينا منه أن الموت للآخرين وليس للأنا، ولأننا لم نجربه إذ الفقد في العمر المبكر أقلُّ من العمر المتأخر كمًا وأحاسيس، وإذ لم يستهونا تطلعُ أبي القاسم الشابي 1909 - 1934م الذي «جفَّ سحرُ الحياة في قلبه الباكي» وتمنى أن «يجرب الموت» فقد اكتفينا بمنظره المهيبِ البارد، واقتنعنا أنه طيف عابر يمرُّ غير عابئٍ بنا أو عابئين به؛ أو ليست الأنا لا تموت؟!
* تجاوزنا - أو بعضُنا - تلغيزَه وترميزه، واستهوت الفتى رواية «نائب عزرائيل» ليوسف السباعي 1917 -1978م - الذي يظن ولا يجزم أنه قد قرأ كلَّ رواياته -وفكر ثم قدَّر: كيف لو صار للنائب سلطة؛ فمن سيصطفي ومن سيختفي، واستعاذ بالله من وساوس الخنَّاس.
* مضى في دروب الحياة حيث تمر الحكايات ولا تستوقفه العبارات وبدت له مجرد محفوظات لا نفك أسرارَها ولا نتخطى أسوارَها، وبقي السؤال: هل الموت هو الفناء أم هو الخلق كما وسمه مصطفى محمود؟ ألم يكتب أنه هو الذي يُذكي الشجاعة ويحقق الإصرار ويوجد الحب المتشبث بالحياة والأمل المتطلع للبقاء والمُثُل الأخلاقية المواجهة للموت.
* كذا رأى صاحبُ «العلم والإيمان» الفيلسوفَ يهطل باستفهاماته والفنان يرسم لوحته والواعظ ينشر طمأنته، وانعتقت أخيلتُنا محلقةً في آفاقٍ لا تدين لقياساتٍ ومقاسات، وأيقن أن السبب جزءٌ من النتيجة لا ينفصل عنها، وأن أحكام القدر لا تستجيب لتحكم البشر.
* تهاوت النظريات حين وجد نفسه يراقب موت والده على مدى سبعين ساعة مدركًا أنه -بإرادة الله الأعظم- قاب إشاراتٍ باهتة يصدرها جهازٌ جامد تسمرت عيناه على أرقامه وذبذباته، وصار يتبادلُ تفسيرها مع من حوله بنظراتٍ هائمة ملؤُها دمعٌ ساخن، لكننا لم نر الموت لغزًا، ولا مُنظِّريه محقين؛ فالحكاية جسدٌ ينفصل وروحٌ تتصل فيغيب لتحيا ويتوارى لتتجلى.
* كانت فجائية الرحيل أقسى من الرحيل نفسه، لكن الصبر وعاءُ الرضا، ولطف الله في الموت كلطفه في الحياة فلا خوف ولا حيف، والخلود للنفس لا للجسد، والمطمئنة منها هي القادرة على وعي المسافة بين الهجوع والرجوع، ومات «طرفة بن العبد» دون الثلاثين من عمره وهو يتوقى الموت ويتجنب الحرب ويطمع في البقاء:
ألا أيهاذا اللائمي أحضرَ الوغى
وأن أشهدَ اللذاتِ هل أنت مخلدي؟
*لم تملك يدُه منعَ منيته ولا اختيارَ توقيتها كما لا نملك ولا نختار، وسيقلق الموت فئامًا ضلَّ بهم المسار فحادُوا عن الحق كما أنزله الحق، أو آذوا غيرَهم فادَّخروا مقاضاتهم حين يلقونهم عند الحق.
** الموت محطة.