منيرة عبدالله الرشيد
بفضل الله وتوفيقه تيسر لي الحج مع إحدى حملات الحج الداخلية، ومنذ البداية سرني سهولة التسجيل الإلكتروني في الحملات، ذلك أنك بمجرد دخولك للموقع الرئيسي لوزارة الحج والعمرة تظهر أمامك الحملات من كافة مناطق المملكة وفيها إيضاح لموقع الحملة وخدماتها وما إذا كانت متعجلة أم لا وفئتها من حيث التنصيف وتكلفة المشاركة فيها، بحيث يختار الراغب في الحج ما يناسبه من الحملات من حيث المزايا ويتلاءم مع استطاعته من حيث التكلفة، ثم ينهي التسجيل ويدفع المبلغ المترتب على ذلك وبهذا يكون جاهزاً للتوجه للحج حيث تنهي الحملة تلقائيا إجراءات تسجيله النظامي للحج، علما بأنه بالإمكان الاطلاع على تقييم الحملات السابق لاختيار الأفضل منها. وهذا التسهيل بخلاف ما كان عليه الناس سابقا فقد كانوا قديما وقبل كثرة أعداد الحجيج يقدمون بسياراتهم ثم ينصبون خيامهم دون توفر مياه وكهرباء، ثم أن الحكومة الرشيدة رأت آنذاك التسهيل على الحجاج بالسماح بإنشاء مكاتب حجاج الداخل، ولكن بقيت بعض المشقة في المرور على مكاتب الحملات لاختيار أحدها دون أن تتعرف على حقيقة مستواها الفعلي، ثم إنهاء بقية الإجراءات عن طريق مراجعة الجهة المختصة، ولكن ما نشهده الآن من تسجيل إلكتروني سهل الأمر بصورة كبيرة.
وفي فجر اليوم الثامن يوم التروية ذهبنا إلى مكان التجمع فوجدنا الحملة قد استأجرت صالة أعدوا فيها بوفيهاً للفطور، ثم تحركنا بواسطة الأتوبيس إلى منى وشاهدت وأنا في الأتوبيس بأم عيني الخدمات الهائلة المقدمة للحجاج ما يعجز اللسان عن وصفه وما لا يستطيع المنصف الإحاطة به، فالطواقم البشرية السعودية المؤهلة تنتشر بتنظيم رائع في سائر أنحاء منى وبقية المشاعر لتقديم كافة الخدمات التي يحتاجها الحاج.
أمسينا في مشعر منى وفي صباح اليوم التاسع تحركنا بواسطة قطار المشاعر بانسيابية إلى مشعر عرفات ووصلنا في وقت وجيز إلى مخيم الحملة، فقضينا ذلك اليوم الفضيل نشكر المولى على أن أتاح لنا الوقوف في عرفات، وعند الغروب غادرنا بشكل منتظم بواسطة القطار إلى المشعر الحرام مشعر مزدلفة في المكان المخصص لحملتنا المجهز بشكل معقول بما يحتاجه الحاج فقضينا فيه من الوقت ما شاء الله لنا، نذكر المولى العلي القدير، والتقطنا الجمرات، وبعدها وبواسطة نفس القطار تحركنا لرمي جمرة العقبة فالتقصير ثم التحلل الأول، وعدنا إلى مقر الحملة في منى لنرتاح قليلا وفي مساء اليوم غادرنا إلى مكة لطواف الإفاضة والسعي في الحرم الشريف وكانت أول مرة ندخل فيها الحرم خلال حجنا، عدنا بعدها إلى مقر الحملة ورمينا الجمار في اليومين التاليين.
وبعد ظهر اليوم الثاني عشر (ثالث أيام التشريق) غادرنا مشعر منى إلى الحرم الشريف فطفنا طواف الوداع ووافينا الحملة في المكان المخصص للتوجه إلى مدينة جدة شاكرين الله العلي القدير أن يسر على الحجاج حجهم بكل طمأنينة وأمان فله تعالى الفضل والمنة. وللقائمين على الحملة الشكر، على تغطيتهم لما التزموا به وعلى الدروس الدينية المستمرة في الحملة وعلى توفيرهم لعالم دين كان هو مفتي الحملة ورافقنا طوال رحلة الحج وكان متميزاً كما كان في قسم النساء مرشدة دينية متميزة. ولقد كان فضل الله على الحجاج كبيرا فقد تلطفت الأجواء بالصيب النافع الذي هطل على مكة والمشاعر طيلة أيام الحج ورغم غزارة المطر أحيانا فقد كان تصريفها ميسراً فلله الحمد والمنة.
أسترجع ذلك كله ويحدوني الشوق إلى تلك الأيام الفضيلات وإلى خير بقاع الأرض وأقدسها حيث مكة المكرمة والمشاعر المقدسة فأرفع يدي إلى السماء أشكر الله عز وجل أن قيض هذه الدولة العظيمة منذ تأسيسها لخدمة المدينتين المقدستين والمشاعر المقدسة فسخرت كل إمكاناتها لخدمة الحجاج والمعتمرين والزائرين فتوازت بفضل الله النتائج الحسنة مع ما تم بذله.
ففي يوم التورية وأيام التشريق لاحظ الحجاج حجم ما وفرته الدولة من إمكانات هائلة يعجز اللسان عن وصفها وتقف الكلمات مقصرة عن الإحاطة بها فالطاقات السعودية المؤهلة والمدربة والمختارة بعناية في كافة مفاصل الخدمات ضربت أروع المثل في تقديم الخدمات للحجاج بكل تفان وخلق وابتسامة وأريحية مواصلين الليل بالنهار فانتشرت في وسائل الإعلام ومواقع التواصل لقطات تحفل بإنسانية المواطن السعودي وتفانيه، كيف لا والمواطن السعودي يعد بفضل الله من خيرة الشعوب خلقا وتأهيلا وهذا ليس كلاما مرسلا بل هو ما أثبتته الأحداث، ولعل الجميع رأى في مقاطع مرئية كيف بكى بعض الحجاج المرضى وهم يدعون لقيادة المملكة وشعبها غير مصدقين ما تقدمه حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله من علاج وخدمات، فقد احتاجوا إلى إجراء عمليات جراحية عاجلة في القلب وغيره فأصابتهم الحسرة ظنا منهم أنهم لن يستطيعوا إكمال حجهم، ولكن الدولة يسرت بفضل الله لهم إكمال حجهم فتنقلوا بين المشاعر بسيارات إسعاف مجهزة وبطواقم طبية على أعلى المستويات، وكراسي متحركة وفي مقرات صحية أشبه بمستشفيات تضم أفضل ما وصل إليه العلم الحديث من معدات وتجهيزات طبية، وحيث إن لغة الأرقام هي اللغة التي يصدقها العقل نستعرض كمثال للخدمات بإيجاز ما تم تقديمه في المجال الصحي فقط خلال موسم الحج فقد استفاد أكثر من مليون وستمائة وتسعون ألف حاج من الخدمات الوقائية والإسعافية في المنافذ الصحية، فضلا عن تنفيذ مبادرة (طريق مكة) التي نفذت فيها وزارة الصحة بمشاركة الجهات المعنية الإجراءات الوقائية في بلد الحاج قبل قدومه إلى المملكة وقد أحدث ذلك نقلة نوعية في الالتزام بالاشتراطات الصحية فبلغت التغطية بلقاحي الحمى الشوكية والانفلونزا الموسمية للحجاج القادمين عن طريق هذه المبادرة نسبة 100 % لأول مرة، وبلغ عدد المشاركين من وزارة الصحة أكثر من ثلاثين ألفاً، وتم تهيئة 45 مستشفى بسعة خمسة آلاف سرير و142 مرکزاً صحياً للرعاية الأولية، و 140 عيادة متنقلة، وتم إجراء 787 عملية قلبية، و600 عملية جراحية أخرى بالإضافة إلى 21 عملية ولادة.
لك أن تتصور أخي القارئ أنه في أيام الحج المعدودات تنشأ ثلاث مدن في منى ومزدلفة وعرفة متكاملة بكامل مرافقها من طرق ووسائل نقل ومساكن ودورات مياه ومقرات أمنية وصحية وبريدية ومطاعم، وتموينات، ومياه وكهرباء وشبكات هاتفية، وتوفير كميات كبيرة من الوجبات المجانية المجهزة، ومسالخ كبيرة للهدي والأضحية ثم يتم تبريد وتجميد الفائض منها وتغليفها بطرق صحية وشحنها ليستفيد منها فقراء العالم الإسلامي، هذه المدن الثلاث يسكنها ما يقارب ثلاثة ملايين شخص ومع ذلك تسير فيها الحياة بكل انسيابية وهدوء ورفاهية وأمن، هل لكم أن تتخيلوا ذلك، آتوني بدولة في العالم تستطيع أن تعمل مثل هذا أو حتى قريب منه في مدة محدودة ثم يكون سكان كل تلك المدن من الشاكرين، هل لكم أن تتصوروا عظمة ذلك ألم أقل لكم أنها السعودية العظمى التي لا مثيل لها في حاضرنا بفضل الله، ألم تصبح المملكة رائدة في إدارة الحشود وتسييرها وطرق تفويجها ومثلا يحتذى به وتقتدي به دول العالم، ثم بعد هذا وبكل تواضع تصر المملكة في كل أدبياتها على أن هذا واجب عليها ويفخر مليكنا المفدى بأن لقبه خادم الحرمين الشريفين فقد تخلى ملوكنا عن لقب صاحب الجلالة واستبدلوه بهذا اللقب المميز. ألا يحق لنا أن نفخر بهذا، وأن نفاخر ببلادنا الأمم، ثم ألا تستحق حكومة هذه الدولة الشكر ألا يكون أقل القليل أن نرفع أكفنا إلى المولى أن يحفظ قادتنا ملكنا وسمو ولي عهده وسائر أعوانهما، لماذا نرى الجحود من بعض الدول وشعوبها لما تقدمه هذه البلاد العظيمة، وهم أشقاء لنا وندين بدين واحد ومصيرنا مشترك، صحيح يؤلمنا ذلك ولكن حين نؤمن بأننا في الطريق الأمثل وبما نقدمه للإسلام والمسلمين وما يقدمه الطرف المناهض من حرب على دولة التوحيد نعرف أننا سائرون في الطريق الصحيح، فنرفع أكف الضراعة إلى المولى عز وجل بأن يحفظ بلادنا وقادتنا وحكومتنا وشعبنا الأصيل وأن يجعل التوفيق حليفهم دائما وأبدا، وأن يجعل ما يقدمونه لبلاد الحرمين وزائريها في موازين أعمالهم.