د. فوزية البكر
أليس مذهلاً أن تسمع معظم أفراد الجيل من حولك يتحدثون مع صغارهم بلغة هجينة هي خليط من لغة عربية مكسَّرة ولغة إنجليزية أشد تكسًراً؟! وتتبعهما العاملة المنزلية والسائق ليقضيا على ما تبقى من عناقيد اللغة المتناثرة حول الصغير والتي يفترض أن يقوم واقعه الاجتماعي بتعليمه إياها، ففي كل مجتمع بشري ومنذ الأزل توجد لغة أساسية يولد عليها صغار المجتمع وتعتبر لغة الانتماء التي تعبّر عن أهم شروطه لتشكيل الهوية والذاكرة الفردية والجمعية لأفراد المجتمع.
لا انتماء لنا كعرب ومسلمين لمجموعة أو ثقافة أو وطن دون الانتماء إلى اللغة العربية خاصة وارتباطها بالدين أساسي بما يعزِّز ضرورة ممارستها اليومية في حياتنا وبطريقة تجعلها ممارسة مريحة وممتعة كما يفعل جيلنا الذي (فاته) والحمد لله قطار العاملات المنزليات فكسب لغة أمه ولم تكن سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي موجودة فقصر التعليم على اللغة العربية حتى المتوسطة (وهو شيء لا أقره، إذ إن الطفل في الحقيقة يستطيع تعلّم أربع لغات في وقت واحد)، إذ إن تعلّم اللغة الإنجليزية مثلاً لا يتعارض أبداً مع تعلّم لغة الانتماء وهي العربية بالنسبة لنا لكن ما يعرضها للخطر والضياع في لسان وذاكرة الأجيال الصغيرة والقادمة هو التعامل معها على أنها لغة قديمة لا تصلح للتعاطي مع منتجات عصر الحداثة والعولمة ولذا فحين نرغب في أن نستمتع بمنتجاتها من مأكل ومشرب وسينما وألعاب إلكترونية وخلافه أي في أفعالنا اليومية فسنضطر في الغالب لاستعارة لغة الآخر: المصدر والمصنع لهذه الحداثة وهي الإنجليزية التي نحكي بها مع صغارنا وتدريجياً تتواري لغة الانتماء مع هذه الأجيال الصاعدة التي لا تجمعها ذاكرة جمعية من الأحداث والذكريات والألعاب والأكل والأماكن فتبدو شخصياتها مشوّهة بشكل ما لأنها لا تستطيع التعبير عن نفسها بعمق أو ببلاغة بأي من اللغتين: لا العربية ولا الإنجليزية لأنها لا تجيد أياً منها بشكل كاف وتراكمي للمفردات والاستعمالات ولا ترتبط بذكريات متكاملة للغة واحدة انتمائية مما يولّد العجز عن التعبير عن النفس والمشاعر وهو ما يراكم الإحباط الذي يولّد غضباً داخلياً قد يتحوّل لعنف فردي أو جماعي أو يتجلّى إذا ما اقترن بظروف حياتية أخرى مثل طلاق أو زواج سيئ ... إلخ بأشكال مختلفة من السلوك السلبي التي تؤثِّر على الفرد والمجتمع. (هل لاحظتم نوبات الغضب المتكررة لدى أطفال هذا الزمن ولأبسط الأسباب)؟
حظي فيديو الدكتورة الكويتية بثينة العيسي حول اللغة العربية بانتشار واسع حين أبحرت في الأخطار التي تهدِّد الذاكرة الجماعية لشعوب الخليج للغياب التدريجي لاستعمال اللغة العربية في حياة أطفالنا اليومية لأنها لامست هموماً مقلقة نعايشها كثيراً ولا نستطيع تحديد أخطارها بعلمية واضحة لأنه لا توجد دراسات طولية وتتبعية لتعلّم اللغة العربية في بيوت تمتلئ بمن لا يتحدثها لذا فإننا نحمد تأكيد وزير التعليم د. محمد آل الشيخ على ضرورة التبصّر في نواتج التعلّم عند تقييم تحصيل التلاميذ: أي الحكم على تعلمهم المهارات الأساسية في اللغة والعلوم والرياضيات من خلال مقاييس عالمية معتمدة مثل نتائج الاختبارات الدولية مع ميل الوزارة حالياً لإلغاء أسلوب التقييم المستمر الذي كان سائداً وضيّع في رأيي أجيالاً بكاملها لا يجيد فيها تلميذ الصف الخامس قراءة الجريدة المحلية ولا كتابة خطاب صغير باللغة العربية إلى صديق، كما نحيي مبادرة الإدارة العامة للتعليم بمنطقة القصيم التي أطلقتها لتعزيز مهارات القراءة والكتابة والإملاء في جميع مدارس المرحلة الابتدائية للبنين والبنات لمدة عام كامل؛ وذلك بمعدل أربعين دقيقة أسبوعياً من أجل معالجة ما لاحظه المسؤولون من نواقص مهارية في المهارات المذكورة، وهو الأمر الذي يجب تبنيه بشكل أوسع وأكثر مؤسسيه لتعميميه في كافة مدارس المملكة.
لو تهاونا في شأن ضرورة تعلّم أولادنا للغة عربية سليمة فأخشى ما أخشاه أن تتحوّل تدريجياً إلى لغة لا تصلح كما يقول الفيلسوف والروائي (أمين معلوف) في كتابه البديع (الهويات القاتلة) إلا للاستعمال المنزلي وسوف تتقلَّص تدريجياً دائرة التداول بها وتتقلَّص معها الذكريات والصور الشخصية والأسرية والاحتفالات الخاصة والعامة.
لا نريد أن نصل إلى هذه المرحلة، فاللغة العربية من أجمل وأقدم اللغات ويكفيها فخراً أنها لغة القرآن الكريم الذي سيحفظها بإذن الله لكننا بحاجة إلى أن نعين أبناءنا على تذكّر ذلك كلما حانت الفرصة لنا.