أ.د. حمد بن ناصر الدخيِّل
لم يتخذ الغربُ ميلاد عيسى - عليه السلام - حدثاً لتأريخ وقائع الحياة، إلا بعد مضي ما يقرب من خمسة قرون على ولادته، ولم يكن التاريخ الذي حددوه لمولده دقيقاً، إذ عرف في وقت لاحق بمدة طويلة أن التاريخ المحدد متأخر عن التاريخ الحقيقي ثلاثة أيام، أو أربعة، أو خمسة، أو ستة، وأشار إلى هذا الخلاف وِلّ ديورانت في موسوعته قصة الحضارة، في حين أن التاريخ الهجري لا خلاف في بدايته. وقبل إقرار التاريخ المسيحي كانت الأمم تعتمد على زمن الوقائع والأحداث المهمة في تحديد وقائع التاريخ والحياة، فكل أمة تؤرّخ بأهم الأحداث في تاريخها؛ فكان الرومان يؤرِّخون من العام الذي أنشئت فيه روما عام 753 ق.م، والعرب لم يستخدموا التاريخ المسيحي منذ إقراره حتى العصر الحديث، فكانوا يؤرِّخون بالأحداث والوقائع المشهورة، فيؤرِّخون مثلاً للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ولد عام الفيل، وأنه شهد حرب الفِجَار مع أعمامه بعد انقضاء عشرين عاماً على حادثة الفيل، وأنه تزوج خديجة - رضي الله عنها - بعد يوم الفيل بخمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام، ويؤرِّخون بأيامهم المشهورة مثل حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، ويوم ذي قار. ويتكرر هذا المشهد عند كل أمة تعتمد على الرواية الشفهية، وأقرب مثال على ذلك ما نعهده في تاريخنا القريب قبل أن تحظى المملكة بهذه النهضة الثقافية الشاملة، فكان معظم الناس يؤرِّخون بالوقائع المشهورة، فنسمع عن فلان أنه ولد سنة المليداء، وآخر ولد عام الصريف، وثالث ولد في العام الذي استعاد فيه الملك عبد العزيز الرياض، ورابع ولد سنة جراب، وخامس ولد سنة الرحمة، وسادس سنة السبلة، إلى آخر هذه المنظومة التاريخية، وكانوا يعرفون عدد الأعوام التي انقضت على هذه الوقائع والأحداث. ويمتاز التاريخ الهجري عن غيره بأنّ بدايته معروفة لا خلاف فيها، وأنه اعتمد على رحلة القمر في السماء خلال أيام معلومة تعتمد على المراقبة والمشاهدة، وكان هو التاريخ الملائم لحياة العرب حينما كانوا أمة شفهية، ونعرف من هذه المرحلة مدة تقرب من أربعة قرون قبل عصر التدوين، فكان العرب يحسبون أيام الشهر بدءاً من إهلال الهلال حتى أفوله في نهاية الشهر، ويستطيعون أن يحددوا التاريخ اليومي من خلال متابعتهم لمنازل القمر ومسيرته في السماء {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ}.
وسمّي الهلال عند العرب هلالاً؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، فكأنهم يحتفلون بإهلاله، وهذا دليل على أنهم كانوا يتابعون رحلته، ويحسبون أيام الشهر خلال هذه الرحلة. وسمَّت العربُ الشهر شهراً؛ لأنهم كانوا يرون الهلال فيشهرونه، أي يذيعونه ويرفعون أصواتهم بالإخبار عنه.
ومن مميزات التاريخ الهجري القمري اختياره لتدوين نشاط الحضارة العربية والإسلامية خلال أربعة عشر قرناً، حتى غدا من مقومات شخصية العرب والمسلمين، وقد أبقت المملكة على التاريخ الهجري القمري كما أقرّه الصحابة في عهد عمر بن الخطاب.
ومن مميزاته أيضاً أن تحديد مواسم العبادات والشعائر الإسلامية لا يتم إلا به؛ فأداء الزكاة، وصوم رمضان، وقضاء مناسك الحج {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}، وصيام الأيام الستة من شوال، ويوم عاشوراء وأيام البيض، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، جميعها تعين بالتاريخ الهجري القمري، وليس بالتاريخ الهجري الشمسي ولا بالتاريخ الميلادي. والانصراف إلى اعتماد التاريخ المسيحي أو التاريخ الهجري الشمسي يفضي إلى الاضطراب في تحديد أوقات العبادات، ويلحظ ذلك في الاختلاف الذي يقع كل عام بين الدول العربية والإسلامية في تحديد بداية شهر رمضان ونهايته، وقس على ذلك سائر الشهور.
وحينما نقرأ أحداث التاريخ المدونة بالتاريخ الميلادي عند جميع الأمم، لا يمكن أن نتصور زمنها إلا بمقابلة الميلادي بالهجري؛ لأننا منذ نشأتنا ونحن لا نعرف سوى التاريخ الهجري، فأصبح جزءاً أساسياً من ثقافتنا وتصورنا لحركة التاريخ.
وبصفة المملكة هي الدولة الوحيدة من بين دول العالم قاطبة التي ما زالت تعتمد على التاريخ الهجري القمري في معاملاتها الرسمية ومسيرة تاريخها، إدراكاً منها بضرورته في تحديد مواسم العبادات والشعائر الإسلامية، وأنه أحد مكونات الشخصية العربية والإسلامية، وحفاظاً على أوعية التراث ومنجزات الحضارة التي دون بها هذا التاريخ، فإنني أقترح أن يكون للمملكة دور فاعل في تبني الدول العربية والإسلامية التاريخ الهجري القمري وإحيائه في معاملاتها الرسمية ومدوناتها إلى جانب التاريخ الميلادي، وذلك بعرض المقترح على مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.