عبدالوهاب الفايز
والآن.. بين أيدينا مثال جديد..
مثال يؤكد ما سبق أن ذكرناه هنا أكثر من مرة، وهو أن (ولي الأمر) لن يتأخر في اتخاذ القرار الضروري والحازم إذا رفعت له الحكومة أو مجلس الشورى ما يريانه ضروريًّا لخدمة مصالح الشعب السعودي. وهذا يؤكد أهمية دور رجال الدولة وقيادات القطاع العام، ومدى المسؤولية التي يتحملونها؛ فهم من يباشر قيادة عمل الحكومة، وتنفيذ برامجها ومشاريعها، والآن واجبهم الإخلاص في تنفيذ هذا القرار بالآلية التي تحقق ما يتطلع إليه الملك سلمان وسمو ولي العهد.
ما نتحدث عنه هو الأمر الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز مؤخرًا، المبنيّ على ما رفعته هيئة الخبراء بمجلس الوزراء وهيئة الرقابة التحقيق، الذي وجّه بألا (تتعاقد الجهات الحكومية مع المكاتب والشركات الأجنبية لتقديم الخدمات الاستشارية إلا في أضيق الحدود، وفي الحالات التي لا تتوافر فيها خبرات وطنية لتقديم الخدمات المطلوبة).
هذا القرار يخدم بيوت الخبرة المحلية، ويلبي تطلعات واحتياجات النخبة الفكرية والعلمية التي تأهلت في أرقى المؤسسات العلمية، وخدمت بلادها في مواقع عديدة، وهي الآن تتطلع إلى أن تضع حصيلة العلم والتجربة في خدمة بلادها مستفيدة من ارتفاع الإنفاق على الخدمات الاستشارية. الأمر السامي يلزم الجهات الحكومية بالتعاقد مع ذوي الخبرة من السعوديين والمكاتب الاستشارية والشركات الوطنية عند رغبتها في الحصول على الخدمات الاستشارية.
هذا الأمر السامي اتضحت ضرورته منذ بضع سنوات؛ إذ شهدنا قفزة في الطلب على الخدمات الاستشارية من القطاعين العام والخاص. وتقديرات المختصين بهذا القطاع تشير إلى أن حجم الإنفاق السنوي على الخدمات الاستشارية المتخصصة يتجاوز الـ 20 مليار ريال سنويًّا.
أغلب هذا الإنفاق - مع الأسف - يذهب إلى الشركات الاستشارية الأجنبية التي تستحوذ على حصة تصل إلى 90 % من سوق الاستشارات الإدارية في المملكة. وهذه الظاهرة تضاف إلى وضع سلبي مؤسف آخر في استشارات المراجعة والمحاسبة؛ فلدينا قلق من استحواذ بضع شركات للمحاسبة والمراجعة العالمية على حصة تصل إلى 80 %. وهذه الشركات وضعت سقفًا زجاجيًّا، يحول دون توطين الصناعة.
في السنوات الماضية أدى توسُّع الطلب على خدمات الشركات الاستشارية الأجنبية إلى بروز تحديات وعوائق كبيرة أمام مكاتب الاستشارات المحلية؛ وهو ما أدى إلى تراجعها وخروج بعضها من السوق. كما أن الخبرات المتميزة التي تقاعدت في القطاع العام والجامعات، واتجهت إلى تأسيس مكاتب وشركات للخدمات الاستشارية، (وجدت بيئة تنافسية صعبة)، ومضى بعضهم يقتل فسحة الوقت التي بين أيديهم بالمقاهي أو بالسفر!
ربما أفضل آلية عملية سريعة لتعظيم الاستفادة من هذا الأمر الملكي تتحقق عبر (إنشاء 3 شركات وطنية مساهمة متخصصة)، تكون قاطرة صناعة الاستشارات في المملكة. وسبق أن طرحت في هذا المكان قبل عامين فكرة هذه الآلية كأداة استثمارية للدراسات والأبحاث. وكانت الدعوة موجهة إلى (صندوق الاستثمارات العامة) لتبني هذا المشروع الاستثماري المربح؛ ليضم جميع المكاتب والشركات المرخصة.
هناك إيجابيات عدة لوجود هذه الآلية، أبرزها سهولة إيجاد (حوكمة ورقابة) على هذا القطاع الحيوي حتى لا يكون مرتعًا للفساد والغش. أيضًا هذه الآلية تساعد للحد من خطورة قطاع الدراسات والاستشارات الأجنبية؛ فقد يوجِد البيئة غير الفعّالة وغير الصحية لإصدار قرارات ومشاريع من القطاع العام خاطئة وغير إيجابية.. وربما تكون مدمرة!
كذلك سبق التحذير من وضع خطير على أمننا الوطني، ويأتي في قائمة سلبيات عدم حوكمة هذا القطاع، وهو: عادة نجد أن المستشارين الأجانب يقتربون من مراكز صنع سياساتنا المالية والاقتصادية، ودخولهم مناطق حساسة يجعلنا نخشى على أمننا الوطني. وسبقت الإشارة إلى أن (بعض التقارير السلبية عن بلادنا في الصحف العالمية تكاد تشك أنها تتم بالتنسيق مع جهات مطلعة على أمور حكومية دقيقة، ولها رغبة في الابتزاز والتأثير على قراراتنا الوطنية؛ لتخدم مصالح دول وتجمعات تجارية ومالية، وتخدم البحث عن الفرص الاستثمارية).
أيضًا من سلبيات الوضع القائم عدم وجود (مركز معرفي مرجعي) لإدارة الوثائق وحفظ الدراسات التي صرفت عليها المؤسسات والجهات الحكومية؛ فكل جهاز حكومي له طريقته الخاصة في الحفظ والاسترجاع وحماية الوثائق، ولا توجد آلية عمل واضحة؛ وهذا يحرمنا الاستفادة من الدراسات السابقة. وربما بعض الأجهزة الحكومية تواصل دراسة موضوعات سبق دراستها والإنفاق عليها؛ وهذا يفوت الاستفادة من نتائجها، وتكون الخسارة مركبة.
الآلية العملية ضرورية لتنفيذ الأمر السامي، وإلا سوف تتغلب البيروقراطية الحكومية التي يبدو أنها دخلت مرحلة الإدمان على الاستشارات الأجنبية!