د.فوزية أبو خالد
1
لا لضرب النساء.
لا لضرب النساء.
لا لضرب النساء.
لا للتسامح مع ضرب الأبناء والبنات.
لا للتسامح مع ضرب الزوجات والأخوات.
لا للتقاليد ولا للعادات ولا للأمثال التي تتساهل في هذا الأمر.
لا للثقافة الرعوية والأبوية التي تسمح لـ»رب» الأسرة بالتعامل مع نساء أسرته وأطفالها كنوع من الملكية الخاصة التي يسمح فيها لنفسه بتعنيفهم وإيذائهم جسديًّا بالضرب، ونفسيًّا بالألفاظ الجارحة والمهينة.
لا لضرب النساء، ولا لضرب البنات والأولاد، ولا للتسامح مع ذلك، لا في القرى، ولا في المدن الرئيسة أو الصغيرة، ولا في الأطراف البعيدة.
ولا بد أن هذا هو العنوان المطلوب بل المتوقع لهذه المرحلة بالمملكة العربية السعودية.
2
أكتب ذلك بعد أن وصلني، ولأكثر من مرة، عدد من القصص المريرة بشأن العنف الأسري والاعتداء بالضرب على الأبناء وعلى النساء، وبشأن إنكار حقوق النساء حتى تلك التي أقرها القضاء، وأقرتها أنظمة الدولة. وهي قصص تقشعر لها الأبدان، وتستنكفها الكرامة، وتأباها عزة النفس، ويجب أن تدينها الحرمة الوطنية، أي حرمة النساء كمواطنات، وحرمة الطفولة.
وهي قصص وإن كانت محدودة إلى حد ما في المدن فإنها منتشرة وتتكاثر في القرى والأطراف، خاصة في ظل تآكل جوانب إيجابية من العلاقات الأولية، كاستنكاف التعرض للنساء، مع ضعف ظهور ثقافة قانونية جديدة، تجرم ضرب النساء، ولا تترك الأسرة في مهب تغيرات سطحية، لا تستطيع تصحيح الأساليب التسلطية في علاقة الرجل بالمرأة والأطفال.
3
ومن تلك الرسائل أقتبس المقتطفات الآتية:
«أنا فتاة من منطقة (....) النائية، وهي منطقة تنتمي معظمها لقبيلة واحدة، ويكاد يكون جل ما بقي من أسباب ترابطها ذلك التعاضد الخفي الذي يقوم على قوامة الرجال على النساء، قوامة متعالية قاسية مفرغة من معنى المودة والرحمة، ومن مضمونها النبوي القائل (لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم)».
«أنا أُم من قرية (....)، وهي وسائر المنطقة التي تنتمي إليها مع سلسلة قرى أخرى من المناطق البعيدة المنغلقة على نفسها وعلى مواطنيها، وقد ظلت كذلك حتى بعد أن أسعفها الله قبل نصف قرن بمدارس الرئاسة العامة لتعليم البنات إن كنت تذكرينها، وأيضًا حتى بعد أن وصلها التطاول العمراني والعديد من الخدمات، بل إن وضع النساء فيها زاد مع الوقت عزلة وتعسفًا. تصوري أن بناتي تزوجن تباعًا وهن قصّر، وقد نالهن ونالني الضرب والأذى لمجرد الاعتراض. ولا تراعَى لي الآن حرمة أنني قد أصبحت (حرمة كبيرة)؛ فزوجي الكهل لا يزال يناولني بالكف، ولا يفكني منه إلا أولادنا الذين بدورهم لا يتورعون عن ضرب زوجاتهم، وكأننا نتوارث حق الرجال في تعنيف النساء».
«الغريب في منطقتي البعيدة ليس أن الرجال يستمرئون ضرب النساء، بل الأطفال؛ فهذا عادي، ولكن الغريب أنهم خائفون جدًّا إن لم يكونوا مرعوبين من التغيرات بالمدن التي بدأت تعطي النساء بعضًا من الحقوق. وهم يلجؤون إلى تسفيه النساء، وتخجيلهن من أي مطالبة بالحقوق على زعم أنها ستؤدي إلى تفكك الأسرة، وبكلمات جارحة لا أجرؤ على كتابتها».
«لا أدري ما الحل لإيقاف القبول بضرب النساء حتى من النساء أنفسهن؛ إذ تجد الحماة لا تتورع عن تحريض ابنها على ضرب زوجته باسم تأديبها مثلاً. لا أعرف ما هو الحل السليم الذي يوقف استمرار ظلم النساء دون التسبب في تفرقة العائلة أو تشتيت الأطفال، وهو السبب الذي يجعل النساء تصبر على الظلم، بل تتستر عليه. نريد من الإعلام أن يتوجه لمناطقنا بالتوعية لزيادة وعي الرجل قبل المرأة بضرورة عدم ضرب النساء والأبناء. نحتاج مثلاً إلى مراكز قريبة آمنة واعية، تلجأ إليها المرأة المعنَّفة وأطفالها الذين يقعون في الغالب تحت طائلة العنف الجسدي واللفظي نفسه الذي تتعرض له الأم. نحتاج إلى نشر ثقافة تستنكف ضرب النساء، كما نحتاج إلى تعزيز ذلك بتنظيم عدلي، يرفع ظلم الضرب عن النساء، ويضع حدًّا نهائيًّا له».
4
وبعد:
حين كنا تلاميذ صغارًا في مدارس حكومية بالعاصمة أو بمواقع أخرى، مدن وقرى ومناطق نائية، كان الضرب في المدارس عملاً مشروعًا كأسلوب تربوي مقبول اجتماعيًّا إن لم يكن مُستحبًّا، يقوم به كل ذي سلطة في المدرسة.. وحين كان بعض الصغار يشتكي من ضرب مبرح يُصبِّره الأهل بمقولة كان يقولها الأجداد للمطوع (أي معلم الكتاتيب) في حقهم:
«خذه لحم ورده عظم».
إلا أن ذلك الفعل أصبح من مخلفات الماضي، وأصبح معرضًا ليس فقط للاستنكار، بل محطًّا للإدانة والتجريم مع الربع الأخير من القرن العشرين.
وقد استطاعت المملكة أن تحقق إنجازًا تربويًّا في هذا المجال بمنع الضرب في المدرس منعًا باتًّا، ولن يكون صعبًا عليها إن أرادت أن تضع بالمثل قانونًا رادعًا ونهائيًّا لضرب النساء، خاصة ونحن نعيش زمانًا متقدمًا على ذلك الزمان الذي مُنع فيه الضرب نهائيًّا بالمدارس.
5
إذن، فذلك التفويض الأبوي الذي كان سائدًا في بيئة اجتماعية محدودة، تلعب فيها الروح الجمعية للمجتمع دورًا تربويًّا تكافليًّا، تكون فيه تلك الروح مسؤولة عن ذلك التخويل أمام الله وأمام مجتمعها الصغير ومنظومة الأخلاق المتعارف عليها, لم يعد مقبولاً مع اختلاف البيئة التي كانت تسمح به، أو ربما اقتضته. وبناء عليه أصبحت وسائل الضبط الاجتماعي التقليدية كالضرب هي نفسها بحاجة إلى ضبط وتغيير في مجتمع المؤسسات، وفي بيئة إدارية وتربوية واجتماعية، يفترض أن تُساس باللوائح المقننة، وبالقانون المحدد الذي يجعل كل فرد مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن أفعاله بما لا يحق له معها - أي مع تلك المسؤولية القانونية - الاعتداء الجسدي أو النفسي على الغير أيًّا كان، لا باسم الدالة التربوية كمعلم، ولا باسم السطوة القرابية كأب أو كزوج. وقد ساند ذلك التوجه العالمي لتجريم استخدام الضرب كوسيلة للضبط الاجتماعي ما برهنته الدراسات النفسية والاجتماعية من فرويد لبياجيه عن الجروح العميقة والأذى البليغ الذي يلحق بضحايا ذلك النوع من العنف الجسدي.
وقد تحول الأمر إلى قضية رأي عام وطني وعالمي في الدول التي ترددت في اتخاذ إجراءات قانونية حاسمة، تجرم الضرب في الحيز التربوي والأسري؛ وذلك نتيجة ما تكشف من خلال الدراسات الاجتماعية والسياسية عن الطبيعية القمعية والأهداف الإذلالية للضرب بما يعتبر اعتداء على حقوق الطفل، وعلى حقوق الإنسان، وبما يوصم تلك الدول المترددة في وضع حد نهائي له بوصمة التخلف والتسلط ورعاية انتهاكات الإنسان.
ولا شك عندي أننا اليوم بالمملكة العربية السعودية كدولة وكمجتمع نحتاج لنخرج من دائرة التوصيم العنفي إلى الأبد على كل المستويات الخاصة والعامة إلى رحاب نهضة منشودة، تقوم على علاقات سلمية على مستوى أسري ومدني ودولي بإذن الله.