محمد آل الشيخ
في تقديري أن التأسلم السياسي، وصعود الجماعات الإسلامية السياسية إلى السطح، كان من أهم أسبابه ودوافعه، نجاح ثورة الخميني في إيران. صحيح أن للجهاد الأفغاني دورا أيضاً، إلا أن ثورة الخميني كان لها القدح المعلى، والذي شجع الجماعات الإسلامية السياسية السنية على اقتفاء أثره القذة بالقذة، وكانت حركة جماعة الإخوان قد ضربها عبد الناصر في الصميم، إلا أن الرئيس السادات الذي جاء بعد عبدالناصر استغل هذه الجماعة استغلالاً سياسياً لمواجهة مراكز القوى السياسية في الداخل المصري آنذاك التي كانت تنافسه على السلطة، فكان إخراج هذا المارد المتأسلم سبباً في اغتياله، وسبباً في استغلال الفراغ الأيديولوجي من قبل تلك الجماعات بالشكل الذي جعلها تتضخم ويتزايد أتباعها، حتى أصبحت قوة فاعلة ومؤثرة في الشارع المصري.
غير أن اتخاذ حكومة خادم الحرمين الشريفين موقفاً مناوئاً لهذه الحركات، كان بمثابة بيضة القبان الذي سرعت بحصار هذا التوجه الدموي والإرهابي، ومن يرصد التوجهات الفكرية السياسية في المنطقة العربية سيلحظ بوضوح أن هذه الحركات الإرهابية تواجه واقعاً مريضاً في أغلب الدول العربية، لعل آخرها ما حصل في السودان، ولا أعتقد أن الشعوب العربية بعد ما جرى من أحداث وأهوال في هذا العقد سيكون لها أي مستقبل سياسي.
بقيت إيران التي هي أصل الداء وأساس البلاء هي القوة المتأسلمة الوحيدة التي ما زالت قوية وفاعلة من بين التجارب السياسية، وإذا سقطت إيران، أوعلى الأقل قلمت الولايات المتحدة أظافرها، وتحولت من الثورة إلى الدولة، وهي حتماً ستصل إلى هذه المرحلة، فإن التأسلم السياسي سواء السني أو الشيعي سيصبح مرحلة تاريخية محله كتب التاريخ وليس الجغرافيا. الإيرانيون اليوم يمرون بحصار أمريكي خانق، وليس أمامهم إلا الفناء أو الرضوخ والحوار. وكل ما يطلبه العالم المتحضر من إيران أن تصبح دولة معاصرة، وليست دولة قادمة من العالم القديم، حيث التوسع والغزو هو من أهم أسباب بقاء الدول في قواميسهم. وكل المؤشرات المنظورة تؤكد ألا مفر أمام حكومة الملالي من الجلوس راغمة على طاولة المفاوضات مع أمريكا والتخلي من الممارسات التوسعية، وأحلام كسرى أنو شروان.
وإيران دولة تحكمها الملالي، وتتبنى طموحات الفرس التاريخية، وهي دولة إذا أحسنت التوصيف ذات نظام شمولي، يتحكم المرشد منفرداً في صناعة القرار داخلياً وخارجياً، وكما تقول التجارب خلال القرن الماضي فإن الأنظمة الشمولية يمكن لها أن تستمر وتوفر الأمن والاستقرار، لكن شريطة أن يكتنف هذا النظام نمو اقتصادي كما يحصل الآن في الصين مثلاً، أما غياب النمو، وتفاقم العلل الاجتماعية، فإن ذلك النظام لا بد له أن يتضعضع، ثم يسقط. وإيران منذ أربعة عقود وهي تعاني من كساد اقتصادي وأزمات اجتماعية حادة، فضلاً عن أن أكثر من نصف شعبها تحت خط الفقر، ما يجعلها في التحليل الأخير آيلة للسقوط الحتمي، ما لم تلتفت إلى إصلاح أوضاعها الكارثية في تنمية الداخل اقتصادياً، وهذا لا يمكن أن يتأتى إذا لم تصرف مداخيلها على الداخل لا على أحلامها التوسعية، وأجزم أنها ستصل طال الزمان أو قصر إلى هذا المصير.
ودولة الملالي هي صنف أصيل من أصناف التأسلم السياسي، حيث تدعي (الدين) في الظاهر، لكنها من حيث المضمون دولة فارسية عنصرية، تسعى في نهاية المطاف أن تعيد أمجاد الفرس، لكن باستخدام (الدين) والتذرع به، أي بمعنى أدق شاهنشاه جديد ولكن بعمامة مقدسة دينية.
إلى اللقاء