أ.د.عثمان بن صالح العامر
الأعمار بيد الله، والأمراض والأسقام والأدواء قدر من الله لا يدري الإنسان متى تحل به، ولا بأي مكان في جسمه ستكون، ولا ماذا سيترتب على إصابته بها، ولكن حين يجتمع على بني آدم كبر يقعده، ومرض يؤذيه أياً كان هذا المرض الذي ألمَّ به فهو أشد ما يكون حاجة لزوجة تؤنسه، وكذا في حال كان الكبير والمريض الزوجة، فهي تنتظر من زوجها أن يكون خير عون لها بعد الله في وضعها الذي آلت إليه، والأم والأب يحتاجان من الأبناء والبنات حين يبلغان الكبر ويداهمهما المرض الملاطفة والممزاحة والرعاية والاهتمام.
ولأنني أعتقد أن الأصل في مجتمعنا السعودي البر والصلة والوصل والملاطفة مع كل من بلغ {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} - فنحن قبل كل شيء مسلمون متكاتفون، لم تغيّرنا المدنية الوافدة، ولم تؤثِّر في سماتنا المتوارثة، وتقتلعنا من جذورنا الحقيقية، وتلغي قيمنا المجتمعية الرياح الحضارية العاتية أياً كان مصدرها ومن أي جهة هبت-. أقول لأن هذا كان اعتقادي في مجتمعنا السعودي فقد كنت أظن أن يكون سلوك الوصل والملاطفة من شبابنا وفتياتنا مع كل كبير طبيعة وسجية لا يمكن لأي منهما أن يتركها أو يقصّر في حقها أبداً، ولذا لم أفكر يوماً ما أن أكتب عن هذا الموضوع الديني - الاجتماعي - الإنساني الحساس بحق، ولم يكن لي أن أكتب عنه مقالي هذا إلا حين عرفت وسمعت أكثر من موقف وحدث خلال الأشهر القليلة الماضية أحزنتني هذه المواقف والأحداث كثيراً وأشعرتني أننا على موعد مع جيل جديد لا يكترث كثيراً بالوضع النفسي لهؤلاء الكبار الذين شاء الله لهم البقاء على قيد الحياة حتى صاروا إلى المرحلة العمرية التي نعتها الله عزَّ وجلَّ بـ(الأرذل)، مع واجب الإشارة هنا إلى أن ما أتحدث عنه ليس ظاهرة مجتمعية -لا سمح الله- ولن تكون يوماً ما كذلك -بإذن الله-.
البعض منا ممن لا يزال يتمتع بالصحة والعافية والنشاط والحيوية لا يدرك طبيعة هذه المرحلة من العمر التي يفقد فيها الشخص كثيراً من لذائذ الحياة المختلفة سواء أكان الفقد لأحد الحواس التي هي المنافذ الطبيعية للمعرفة، أو أنه فقد التلذذ بطعم الطعام والشراب، أو جمال المكان، أو النوم الهانئ، أو الجلوس الصحيح، أو المشي المستقيم، أو وجود الأصدقاء والخلان الذي قدَّر الله عليهم مفارقة الحياة والرحيل عن هذه الدنيا، وربما فقد الزوجة الموجع والمؤلم، أو الأخ، أو أحد الأبناء، أو غير ذلك كثير مما هو من مصائب الدنيا التي لا تخفى، أقول إن هناك منا من لا يدرك حجم المعاناة التي يعاني منها الكبير شيخاً كان أو عجوزاً ولذلك لا يولي اهتماماً خاصاً بمن حوله ممن بلغوا أرذل العمر (نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وذهنياً) ظناً منه بأنهم مثل غيرهم من الأحياء يمكنهم التكيّف مع الحياة دون مساعدة ومشاركة حقيقية ممن حولهم سواء في الزيارات الدائمة، أو الأحاديث المؤنسة، أو الهدايا المفرحة، أو الأخبار السارة، أو الرحلات البرية المبهجة، أو غير ذلك كثير مما يسعد الشخص الكبير - المريض خاصة حين يكون مقعداً لا يستطيع الحراك والخروج من بيته وربما غرفته وكأنه سجين حتى الموت.
إن البر بالوالدين إن كان مطلوباً من الأولاد في جميع مراحل حياتهما، بل حتى بعد موتهما فهو أوجب وألزم حين يكونان في {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} الذي يفقدان فيه العلم بالشيء كما أخبر بذلك الرب عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم، والمحزن والموجع والمؤلم حقاً أن تجد أباً مقعداً أو أماً عجوزاً عاجزة يتمنى أو تتمنى أن ترى ولدها أو بنتها أو على الأقل تسمع صوتهما في اليوم، الأسبوع، الشهر، حين المناسبات والأعياد، ولا تتحقق هذه الأمنية للأسف الشديد مع أن المسافة بينهما لا تتجاوز عشر دقائق بالكثير. بصدق ماسأة، أسأل الله عزَّ وجلَّ ألاّ يجعلنا نحن ولا ذرياتنا ولا أنتم ومن تحبون من العاقين، أهل القطاعة والجحود، وأن يرزق قلوبنا اللين والرحمة والرأفة التي تفيض على القريب والبعيد إنساناً كان أو حيواناً أو نباتاً، وأن يجمّلنا جميعاً بحسن الخلق، دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود والسلام.