د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أبناؤنا فلذات أكبادنا، نكدح ليل نهار برغبة تأمين مستقبلهم، وضمان ألا نتركهم للحاجة والعوز. وقد ذكر الله - جل جلاله - في كتابه المحكم أن المال والبنين زينة الحياة. وما أحب من الأبناء كما يقال إلا حب أبناء الأبناء. ولكن لتربية الأطفال تربية صحيحة المال غير كاف. وتربية الأبناء ليست فرض كفاية، أي إنه لا يقوم أحد مقام الوالدين في تربية الأبناء. وتثبت بعض الأبحاث أن الوليد ينجذب لرائحة والدته، وهي الرائحة التي تعود عليها في بطنها؛ لذا يشعر بالحنان المبكر فقط في حضنها، وعندما يرضع منها.. وهي أول إدراك حسي له في الحياة؛ فالطفل في أول أيامه لا يرى بشكل جيد، ولا يميز، وقد ترعبه الأصوات العالية، لكنه لا يميزها، وحاسته الأولى التي ترسخ في ذهنه هي حاسة الشم؛ لذا جميعنا نشعر بانجذاب جارف تجاه أمهاتنا حتى ولو تقدمنا في السن. ولا غرو أن الله جعل الجنة تحت أقدام الأمهات.
لكن نمط الحياة الرأسمالي، والوفرة المادية، والحقوق التي حصلت عليها المرأة، وتغيُّر نمط حياتها جعلها تبتعد عن طفلها، سواءً بالانشغال بالعمل أو غيره، وتترك بعض أمور التربية لسيدة أخرى، ليست هي مَن ولدته، ومهما كانت طيبة وحنونة فلا يمكن أن يكون لديها حنان الأم ذاته؛ لذا فمن المعتاد أن نرى بعض النساء يمشين في الأسواق، أو الاستراحات، أو المنازل، وخلفهن عاملات منزليات، يحملن أبناءهن. والأسوأ من ذلك ترك الأطفال مع السائق، سائق قد تنقصه النظافة، وتخونه الأمانة.
ويقضي الطفل في بعض الأحيان وقتًا أكبر مع العاملة منه مع والدته. وقد يوكل للعاملة أيضًا بعض الأمور الخاصة جدًّا بالطفل، كمسألة إرضاعه، وغيرها! والكاتب يخشى أن ذلك يؤثر على شخصية الطفل لتعدد مَن يكشفون أموره الخاصة، ويخلق لديه ازدواجية في أحاسيسه بالأمومة؛ فيخلط بين العاملة، أو العاملات، والأم حقيقة. ويتبع ذلك ازدواجية لغوية وسلوكية نتيجة لاختلاف لغة وسلوكيات العاملة عن سلوكيات أُم الوليد وأسرته. هاتيكم إذا ما كانت العاملة حنونة ومحبة للطفل، ولكن في حالات كثيرة -للأسف- لا نعرف ما يحدث لفلذات أكبادنا عند غيابهم عنا مع العاملات. قد يعوض الحليب الصناعي حليب الأم في بعض الأوجه، ولكن ليس هناك من يعوض حنان الأم. نرحم الأيتام لافتقادهم الحنان، ويمكن اعتبار بعض أطفالنا الذين يُترك أمر تربيتهم للعاملات أنصاف أيتام! وآثار غياب حنان الأم بدأنا نلاحظها في الأجيال الجديدة التي ربتها العاملات، من تمرد، أو لا مبالاة، أو انحراف في الميول، أو الشراهة في الأكل.
لا مجال لمناقشة الكيفية التي دخلت بها أنماط الحياة الجديدة علينا، ولكنها باختصار مجاراة حضارية وثقافية للعالم من حولنا؛ فقد رسمت لنا معالم حضارية معلومة، ربما لم يكن خيار فيها. وقد سبقتنا مجتمعات كثيرة بوقت طويل فيما نمرُّ به اليوم من تطور مجتمعي، ولكن في دول ننظر لها عادة على أنها دولٌ متقدمة أدركت المجتمعات فيها القيمة الحقيقية للأمور المادية، وأدركت أيضًا أن اللهث وراء الأمور المادية ليس أمرًا طبيعيًّا ومن صلب طبيعتنا الإنسانية، بل أمرًا زُرع فينا، وتمت برمجتنا عليه من قِبل الشركات المنتجة التي تقدم المال على الإنسان.
بدأت تظهر بوادر قوية في الغرب، وبعض الشرق، للرغبة في موازنة الأمور المادية مع الأمور الإنسانية. شاهدنا مديرين كبارًا يقلصون أعمالهم؛ ليتمتعوا بوقتهم، ورأينا نساء يتركن وظائفهن، أو آباء يتركون وظائفهم للبقاء مع أطفالهم.
نحن في المملكة ربما يجدر بنا عدم التفريط في تربية أجيالنا القادمة، وموازنة عمل المرأة مع مسؤولياتها التربوية. البعض يقول المسؤوليات التربوية من واجبات الأب، ونقول نعم، ولكن ربما في مراحل التربية المبكرة لا أحد يمكنه أن يأخذ دور الأم. وليتنا ننظر في هذا الأمر، ونتيح للأمهات العاملات الراغبات في العمل بدوام جزئي، أو نصف دوام؛ ليتسنى لهن البقاء مع أطفالهن؛ فهذا الأمر علاوة على أهميته متعة من أجمل متع الدنيا.