م. بدر بن ناصر الحمدان
يبدو أن منطقة عسير قررت أن تُقدم نفسها كنموذج محترف في منهج إدارة المدن الطامحة للبناء والتغيير، ومن الواضح أنها في طور الخروج من دوائر النمطية والتقليدية إلى فضاء إداري أوسع وأرحب يعتمد على الإبداع والابتكار والتطوير، والأخذ بتفعيل مبدأ «إدارة المدن بمشاركة سكانها» من خلال تجربة عملية، تؤكد أن ثمة رغبة جادة بإحداث ذلك التغيير على أرض الواقع، مهما كلف الأمر.
لم تكن مفاجأة بالنسبة لي وأنا أشارك مع مجموعة من المتخصصين في ورشة عمل تحكيم مشروعات بلديات منطقة عسير أن أجد أمير منطقة عسير الأمير تركي بن طلال بن عبدالعزيز يجلس وبشكل عفوي في قلب المشاركين مستمعاً ومشاركاً، بل ومنظماً للحوارات والمناقشات التي امتدت لأكثر من ثماني ساعات دون توقف، تاركاً وراءه كل البروتوكولات الرسمية خارج القاعة، في مشهد «اعتباري» كان رسالة واضحة للجميع، أن المنصب «مسؤولية» و»أمانة» قبل كل شيء، وأنه لا استثناءات لأيّ مسؤول من القيام بواجبه.
أقول لم تكن مفاجأة كوني متابع وراصد لفلسفة عمل الأمير تركي بن طلال في إدارة المدن منذ بدأ عمله في المنطقة، وعزز هذه القناعة حضوري لبعض الاجتماعات التي كان الأمير يتحدث فيها عن منهجية العمل التي يعتزم تطبيقها لرفع كفاءة الوظائف الحضرية للمدن، لقد أدهشني منذ البداية أن يضع أمير منطقة تحسين البيئة العمرانية كأولوية عمل، وكنت أقول في نفسي حينها أن هذا السيناريو لن يستمر، فحتماً سوف تستحوذ مسؤوليات وقضايا الأمن والتعليم والصحة وغيرها على تلك الأولوية مع مرور الوقت، ومن ثم يتراجع هذا الاهتمام بجوانب تطوير وتحسين المدن، كما حدث في كثير من التجارب، ولكن ما لذي حدث.
اكتشفت لاحقاً -من منظوري الشخصي- أن أمير المنطقة لديه «أجندة عمرانية» ذات أولوية مستمرة، وغير قابلة للتنازل، تعتمد وبشكل رئيس على معادلة الارتقاء بالبيئة العمرانية للمدن كمدخل رئيس لتطوير كل قطاعات الاقتصاد والصحة والتعليم والأمن والمجتمع والرياضة والترفيه والسياحة... إلخ.. كون مكونات تلك القطاعات تعمل داخل هذه الحاضنة العمرانية، ولأن المدن هي رحم الحياة، والمكان الذي يُشكل حيز الاحتواء لكل تفاعلاتها، ومتى صلحت صلح الأمر كله، بما فيها تنمية الفرد والمجتمع، أيّ أنه من خلال إصلاح التنمية العمرانية يمكن إصلاح التنمية الشاملة.
كمتخصص في إدارة المدن، أنا فخور بهذا الإنصاف لعمارة المدن من لدن الرجل الأول في المنطقة، وأجزم أن هذا المفهوم العميق، والبعد المحترف في الإدارة الشاملة للمدن يعتبر أمراً في غاية الندرة، عطفاً على التجارب القائمة، ويمكن القول إنه من السهل التعاطي معه «نظرياً»، أو في أروقة الجامعات والندوات، أما تطبيقه «عملياً» على أرض الواقع فهو بمثابة تحدٍّ كبير، ومهمة صعبة، بل ومخاطرة جريئة، خاصة إذا ما كانت البيئة الإدارية القائمة ذات تركيبة معقدة ولم تصل للنضج الكامل لمفهوم الإدارة المحلية بتطبيقاتها المختلفة.
أمانة منطقة عسير بقيادة أمينها «الخبير» الدكتور وليد الحميدي، كانت في الموعد، ومحل الثقة، لأن تقود مبادرة التغيير من أجل التفاعل مع هذا الحراك الحضري، واستطاعت أن تقدم عملاً كبيراً، وأن تُحدث هي الأخرى تحولاً في عقلية إدارة المدن على مستوى البعد المكاني، والذي بدأ -على غير العادة- من الأسفل إلى الأعلى، أي أن التغيير بدأ من بلديات المراكز والمحافظات، تلك البلديات التي كانت قادرة على قبول التحدي وتقديم نفسها كأجهزة محلية يمكن الاعتماد عليها، وقدمت جهداً متميزاً مقارنة بإمكانياتها المحدودة، وحداثة تجربتها في مجال تخطيط وتصميم المشروعات العمرانية، والمتخصص الممارس في العمل البلدي يعي معنى ذلك جيداً.
أنا واثق جداً أننا أمام تجربة استثنائية في إدارة المدن، ستجعل من منطقة عسير نموذجاً في الإدارة الحضرية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لأنها راهنت على أن التنمية الشاملة تبدأ من بناء الفرد والمجتمع وتحسين جودة الحياة والعمران داخل المُدن.
التاريخ يقول إن من يراهن على تنمية «الإنسان» و»المكان» لا يخسر أبداً، كونوا على الموعد.