د.عبد الرحمن الحبيب
«حذرنا كثيراً الجميع بأن ما يفعلونه سيغير وجه العالم كله وسيدمر الأرض..» هذا ما قاله زعماء سكان الأمازون الأصليون نقلاً عن زعيم شعب كايابو في البرازيل راوني ميتوكتير الذي كتب قبل أيام في صحيفة الغارديان: «ندعوكم لوقف ما تقومون به، وقف تدمير غابتنا. عندما تقطعون الأشجار فإنكم تعتدون على أرواح أسلافنا. عندما تنقبون عن المعادن فإنكم تطعنون الأرض في القلب، وعندما تفرغون السموم فإنكم تضعفون الأرض حتى تموت، ولا يمكن لأحد بعدها أن يعيش. سنموت كلنا..».
ثم تساءل بحرقة: «لماذا تفعلون ذلك؟ تقولون إنه من أجل التنمية، ولكن أي نوع من التنمية هذا الذي يأخذ ثروات الغابة ويستبدلها بنوع واحد من النبات أو الحيوان؟ لمن هذه التنمية؟ إنها لأجل أن يحصل بعضكم على كميات ضخمة من المال. في لغة شعب كايابو نسمي أموالكم أوراق الحزن، لأنها ميتة ولا طائل من ورائها، فهي مصدر كل الشرور».
ليس السكان الأصليون فقط من يطالب بحماية الأمازون بل أيضاً غالبية البرازيليين (80 - 90 %) يدعمون حماية بيئية قوية للأمازون حسب استطلاعات الرأي (فورين بولسي). أضف إلى ذلك بقية دول العالم، فخلال اندلاع الحرائق الأخيرة بالأمازون تعهد زعماء دول مجموعة السبع بضخ الملايين لمساعدة البرازيل على إطفائها، لكن غالبية ناخبيهم غير راضين عن الجهود المبذولة لحماية البيئة، حسب استطلاع غالوب.
الأهمية العظمى لغابات الأمازون تتمثل بأنها «رئة العالم» موفرة ما بين 20 إلى 25 % من الأكسجين للعالم وتمتص ثاني أكسيد الكربون، والخوف أن يتفاقم سوء الحالة في الأمازون لنقطة اللا عودة خلال عقد من الزمن.. ومن هنا نفهم قول زعماء العالم للحكومات البرازيلية إن «الأمازون ليس ملكاً لكم وحدكم».
الحرائق في الأمازون تحدث لأسباب طبيعية وأخرى متعمدة، لكنها بالأشهر الأخيرة تعد الأعلى منذ بدأت القياسات، إذ زادت بنسبة 50 % مقارنة بنفس الفترة عام 2018، أغلبها متعمدة للتوسع في الزراعة والماشية والتعدين؛ ويرى كثيرون أن ذلك يرجع لسياسات الحكومة الجديدة للرئيس جير بولسونارو، المتهمة بالتوسع في الزراعة والتعدين متجاهلة أو منكرة أغلب التحذيرات البيئية ومهددة بالانسحاب من معاهدة باريس للمناخ بزعم تعارضها مع تنميتها الاقتصادية، على خلاف الحكومة السابقة التي كانت تهتم بالبيئة..
ورغم تشابه الحرائق الأخيرة مع السابقة فإن بروفيسورة التنمية كاثرين هوشتستلر (كلية لندن للاقتصاد) تطرح ثلاثة تغييرات كبيرة تجعل هذا الوقت مختلفًا لتقديم أدوات جديدة للتصدي للحرائق.. أولها ثورة في البيانات والأبحاث المتوافرة حول الأمازون وأنظمته البيئية.. وخلاصتها تؤكد أن عمل الإنسان فاقم الاحتباس الحراري والتأثير السلبي على المناخ، وأن الحرائق أدت لنقص امتصاص الكربون من الجو.
الأداة الثانية هي السياسات الحكومية خلال العقد الأول من القرن الحالي التي نجحت في الحد من التوسع في الأمازون وخفض معدلات إزالة الغابات. لكن معدلات الإزالة عادت وارتفعت منذ 2014 مع ضعف رقابة الدولة. أما في العهد الحالي للرئيس بولسونارو فقد تفاقم الوضع بخفض الدعم أو إيقافه لكثير من مؤسسات حماية البيئة، وتغيير قياداتها وتحويل سلطاتها إلى وزارة الزراعة..
الأداة الأخيرة هي العلاقات التجارية العالمية والمستهلك النهائي (السوبر ماركات الكبرى) التي تشترط أن تكون المنتجات الزراعية صديقة للبيئة، والتي امتدت إلى منتجات الأمازون، وقد وقعت العديد من الاتفاقات التجارية لضمان ذلك. كما ظهرت مؤخراً الكثير من الأصوات محذرة الحكومة البرازيلية من أن طموحاتها الاقتصادية تعتمد على تجنب سمعة دولية باعتبارها منبوذة بيئياً، فأغلب حرائق الغابات البرازيلية متعمدة، وتحتاج إلى بذل جهد سياسي واقتصادي لتقليصها.
من المهم تحفيز الحكومة البرازيلية وليس مواجهتها أو تحديها.. «ليس بالضرورة أن تكون التنمية الاقتصادية وحماية البيئة على خلاف»؛ كما كتبت ليزا فيسكي ونيت جراهام من مركز حوار البلدان الأمريكية.. فطاقة الرياح والطاقة الشمسية تنمو باطراد هناك مفيدة كل من الاقتصاد والبيئة، لكن السؤال الذي يطرحانه، هل سيأخذ بها الرئيس بولسونارو؟
بيد أن السؤال الأهم هو ما الذي يجب القيام به؟ المفتاح يكمن بالعمل مع الشركات بالمنطقة، وليس ضدها؛ كما يجيب روبرت موجاه مؤسس معهد إيجارابي للتنمية بالبرازيل، الذي يضرب مثلاً صناعة الماشية، فقد لا يبدو أن منتجي اللحوم مهتمون بالبيئة لكنهم يقلقون كثيراً بشأن كبار المستوردين الذين يلتزمون بمعايير حماية البيئة. أما إذا فشل كل ذلك مع الحكومة البرازيلية الحالية، وتدهور الوضع البيئي في الأمازون، فما الذي يمكن عمله؟ يطرح البعض ضرورة العقوبات الدولية أو حتى التهديد باستخدام القوة من خلال مجلس الأمن (كاثرين سلام، فورين بولسي).
ومن هنا يأتي تأكيد موجاه بعدم التعارض، «الأمازون الصحي ليس لمصلحة المجتمع الدولي فقط، ولكن أيضًا للبرازيليين، الذين سيعانون كثيراً إذا تجاوزت معدلات إزالة الغابات نقطة اللا عودة».. ومؤكدًا بمقاله الأخير أن «مصير الأمازون متشابك مع مصير العالم.» على المدى القصير، فإن إيقاف تفاقم الوضع السيء هو ضرورة عاجلة، لكن على المدى الطويل، فأفضل الحلول هو الجمع بين الحكومات المسؤولة ومؤسسات حماية البيئة والشركات التجارية لإنقاذ السفينة قبل أن تغرق بالجميع.. فحرائق الأمازون، هي نيران على حدود منازلنا في العالم كله..