د.عائشة صالح الشمري
لم يعد تعريف الثقافة من الأمور الجديدة، وبالرغم من ذلك ليس سهلاً، لا لأنه كذلك بل لأن تعريفاته متشعبة وكثيرة، إذ عرفها مختصون كثر كل منهم بحسب انتمائه الفكري وبحسب تخصصه وميوله وقدراته الفكرية أيضاً، ومع ذلك نستطيع أن نقول إنها حالة الوعي الفردي المقترن بإحساس الذات والعالم وقناعاته وأهدافه، بغض النظر إن كان هذا الذات ملتزماً أو غير ملتزم بقضايا مجتمعه أو أمته، لكنا نميل إلى المثقف الملتزم على أتم ما يعنيه مصطلح المثقف الملتزم.
إذا كان الليث عبارة عن مجموعة من الخراف المهضومة، على حدّ تعبير «بول فاليري»، فإن المثقف هو الذي يمتلك وعياً نتيجة لقراءات وتمثُّل معارف متعددة، وهذه المعارف ليست بمعزل عن قضايا المجتمع، إن الثقافة جهد فردي ذاتي من شأنه الإسهام في النهوض بالمجتمع، إذ من واجب المثقف الحقيقي تجاه جماعته نشر الوعي بينهم بطرق ناعمة لا تلزمهم بشكل مباشر بقدر ما تؤثر فيه بشكل أكثر إقناعاً.. وعلى حد تعبير المفكر مالك بن نبي فإن «المثقف المسلم ملزم نفسه بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي».
إن المثقف هو الذي يؤثر في مجتمعه بقدر ما يتأثر به، ويسهم في خلق توجهاته وتصوراته وميوله، ومع ذلك فإن المثقف يتعدد بتعدد إسهاماته في واقعه، فنجد المثقف النمطي، والمثقف العضوي، والمثقف الملتزم، والمثقف الأكاديمي، والمثقف الروحي... إلخ.. ولعل من أكثر المثقفين قدرة على التأثير في الواقع والأجيال على صعيد طويل المدى هو المثقف الأكاديمي الذي لا يكتفي بإيصال محاضراته لتلاميذه بشكل تلقيني، بل الذي يسهم في خلق رؤية وقناعة لديه، وجعل المعارف التي يوصلها إليهم أكثر ارتباطا بواقعهم وتصوراتهم، إنه يزرع لديهم وعيا وقدرة على تمثل الحياة وتصور الأمثل.
إذن فالمثقف هو الذي يمتلك المقدرة على الإدراك النظري فهماً وتأسيساً. ويسهم في التأسيس للنقد والتفكير والتمييز بين الآراء، ومن الطبيعي، من ثم، أن يكون دور المثقف يتمحور حول خدمة مجتمعه، وذلك يكشف مدى الهوة الشاسعة بين جود المثقف الفعلي وغيابه، إذ إن المثقف في واقعنا «اسم حاضر، وفعل غائب»، فإننا نفتقد إلى المثقف الذي يقدم رسالته الناضجة المؤثرة. لقد كشف الواقع وما يتعلق به من إشكالات تمس الوطن الهوية والدولة إن دور المثقف غائب بل ومتواضع إن حدث، إن المثقف المتفاني الذي يحترق من أجل مجتمعه كما هو المثقف العضوي عند الفيلسوف الإيطالي غرامشي غائب، ونعني المثقف الذي يعبر عن حاجات مجتمعه ويقدم حلولاً وتصورات للخروج من المآزق والتنبؤ بها قبل حدوثها.
وفي المجمل فإن الثقافة وعي، كما أسلفنا، والوعي تنوير، وإدراك لكيفية التنوير ذاته، وذلك لا ينفصل عن الواقع، فلا يمكن للثقافة الطوباوية أن تخلق شيئاً، أو تنجز ما يمكن إنجازه على صعيد الواقع العملي، بل يتطلب الأمر إلى ثقافة ذات أبعاد متعددة ترتكز على الواقع باعتباره الميدان الذي تتفاعل فيه الأسباب بالنتائج التي تحدثها هذه الثقافة.
** **
- عضو هيئة تدريس بجامعة حائل