د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ترى جوليا كريستيفا أن النص «جهاز عبر لغوي»، أي أنه ليس لغوياً، ولكنه يصل عن طريقها، وهذا يعني بدوره أيضاً أن النص خارج اللغة، ويحدث بعدها، فهو ما يحدث لدى المتلقي بعد استقباله اللغة من دلالات ومشاعر حيال الموضوع المطروح بتأثير السياقات التي تحيط به.
وبالرغم من أن هذه الدلالات والمشاعر (الأثر) الذي تحدثه اللغة (النص) في المتلقي كانت محل جدل عريض بين كل المشتغلين باللغة والتاريخ، بل العلوم الإنسانية أجمع، فإن السؤال هو عن رسالة النص (الأثر) عندما تتحول إلى قواعد، وحكم، ومبادئ، تتضمنها الكتب والدراسات اللاحقة؛ فيصبح النص ببُعده الدلالي منتشراً بما جاء بعده من كتب، وببُعده الشعوري بما جاء بعده من شروح وتحليلات، وحكايات وأخبار، وتكون قد كتبت بناء على ما فيه المطولات، تفصل، وتناقش، وتضيف، وتعدل ما جاء فيه، أو تقلبه على وجوهه المختلفة، وتورد الحكايات في إنشاده، أو أسباب وضعه، وتلقيه في المجالس، وما قيل حوله من نقود. السؤال عما يبقى من النص بعد ذلك، إذا كانت دلالته التي هي «النص» في الرؤية السالفة قد ظهرت بشكل أكثر جلاء ووضوحاً، وتطوراً فيما تلاه من كتب؟ وهل يظل النص قادراً على إثارة المعاني والمشاعر الأولية لدى المتلقي بمعزل عما كتب بعده من كتب، خاصة عندما تتجاوزه النصوص اللاحقة في مضامينها وطرائق تأليفها، فيظل مستقلاً عنها متعالياً عليها؟
لا شك أن النص في زمنه واقعة لغوية، وتجربة دلالية وشعورية، ثم يتحول بناء على التأثير الذي يحدث في زمنه، وما يحمله ويستدعيه من مشاعر إلى واقعة تاريخية بما أحدثه في زمنه من أثر لغوي وأدبي وربما اجتماعي، وهذا ما يجعله معدوداً في ملكوت تاريخ الأدب، بوصف ذلك الأثر حقاً تاريخياً، لا ينازعه فيه ذو سلطان، يندرج في ركب الخوالد من النصوص.
إلا أن السؤال يتصل بعد ذلك بشرعية المعاني والمشاعر الجديدة التي قد يثيرها النص بعدما تُكتب الكتب، وتدون الشروح، وتتطور المعارف والمبادئ التي كانت فيه إلى منتهاها أو قريباً منه حين تتبدل السياقات والأزمنة؛ ذلك أن النصوص ومعانيها مربوطة بسياقاتها الأولى التي أثارتها في نفوس المتلقين الأوائل، وإثارة معانٍ جديدة تخالف ما في الكتب، تعني أنها تختلف عن السياقات الأولى بما أن القارئ الجديد لا يدرك تلك السياقات إلا بناء على ما روي في الكتب المؤلفة، وهذا يعني أننا سنعزل النص من سياقاته الأولى وما كان سبباً في إنتاجه من كتب، ونستنبط منه شيئاً آخر، وهذا قد يعيدنا إلى مربع الدراسات النقدية الداعية إلى عزل النص عن سياقاته الأولى، وكأننا نكرر ما طرحته بعض المدارس في النصف الأول من القرن العشرين، لكن قبل أن نمضي في هذا الحديث مع أصحابه ينبغي أن نسأل هل نحن المتلقين المعاصرين فعلاً معزولون عن سياقات النص الأولى، حتى لو نظرنا إلى النص كبنية مغلقة، وأخرجنا سياقاته التاريخية من الاعتبار عند النظر، أليست اللغة ذاكرة، وكل لفظة من ألفاظ النص تمتلئ بمحمولات تاريخية طويلة، وذاكرتنا تختزن بكل هذه المحمولات؛ وهو ما يعني أن سياقات النصوص مختزنة في وعينا بوصفها تشكل ذاكرتنا كما تشكل النصوص؛ فنحن والنصوص نشترك بعمق سياقي تاريخي واحد، هو الذي تتوجه إليه اللغة في نظامها، وحين نقرأ النص نعيد تركيب سياقاته الأولى، وهذا يعني بدوره أن التخلص من السياقات الأولى تخلص نسبي وليس كلياً كما قد يظهر للوهلة الأولى، وهذا يمنح النصوص القادرة على إنتاج الدلالات والمشاعر بمعزل عن الكتب المؤلفة بعدها سلطة حاكمة على النصوص المؤلفة بعدها، يتمكن القارئ من خلالها من الموازنة بين ما يجده فيها، وما تبعثه النصوص فيه، وبمقدار ما يجده من قرب أو بعد يكون موقفه من الكتب التي أنتجت بعدها، وإضافته إليها، وتكون ملاحظاته عليها، وهي حاكمية (ليست حاكمية سيد قطب) مطلقة بناء على أنها مصدر تلك المؤلفات والنصوص، وأنها (المؤلفات) إنما كتبت بوحي منها.
كما يمنح الشرعية للمعاني والمشاعر حتى لو كانت لا تنطلق من السياقات التاريخية للنصوص، وتؤسس سياقاتها الخاصة بها، فتسير في اتجاه مغاير للذي تسير فيه المؤلفات اللاحقة بالاعتماد على الاعتبار السابق للغة؛ إذ هي تكشف عن جانب مخبوء فيها (النصوص)، أثارته التجارب الجديدة للمتلقين مما لم تكن لسابقيهم، فأحدثت في نفوسهم وعياً جديداً، تلقيت تلك النصوص من خلاله، أو أنها تشحن النصوص بطاقة دلالية لم تكن معروفة من خلال إدماجها بسياقات اجتماعية معاصرة.
لكن هذه الفرضية ليس بالضرورة أن تكون صحيحة؛ فكثير من النصوص تفقد قيمتها بتأثير الكتب المؤلفة، ولا تحدث في المتلقي المعاصر ما أحدثته في المتلقي الأول، وتنحصر قيمتها بأنها وثيقة تاريخية على تلك الواقعة اللغوية والتاريخية السابقة، وإثبات قانوني وعلمي لحق مؤلفها في الآراء والأقوال المنسوبة إليه في الكتب اللاحقة، وهنا يصح السؤال عن القيمة العلمية والأدبية للنص.