أ.د.عثمان بن صالح العامر
شخصيًا لدي قناعة تامة بأن للجغرافيا دورًا رئيسًا في تكوين وبناء الإنسان نفسيًا وجسديًا وعقلياً وبنسب مختلفة حسب قوة وضعف بقية المكونات الأخرى المزاحمة لهذا المكون. كما أنني أعتقد أن لكل مجتمع شخصيته التي قد تتفق أو تختلف عن شخصية غيره من المجتمعات القريبة منه والبعيدة في الصفات والخصائص والأنساق والأعراف بناءً على متغيِّرات ومؤثِّرات عدة ليس المقام في هذا المقال مقام الحديث عنها، ولكن ما يهمني هنا الإشارة إليه إلى أن حديثي عن هذا البعد المهم في الشخصية الحائلية لا يستلزم منه نفيه عن بقية المناطق السعودية والبلاد الخليجية والدول العربية والمجتمعات البشرية ولا حتى إثباته.
لقد خلَّد الإنسان الحائلي عبر تاريخه المديد صورًا من النبل في السلوك، والرقي في التعامل، والانبساط مع الآخر، والأنس به، والأريحية معه، كما أنه كان وما زال مصدرًا ثرًا للقصص والحكايات التي تنم عن تجذّر هذا البعد - محل الحديث - في نخاع تكوين إنسان المنطقة، حتى صار الحائلي مضرب المثل في كثير من الصفات والأخلاقيات الإنسانية التي هي محل مدح وثناء منذ عصور العرب الأولى وحتى اليوم، فضلاً عن تلك المنزلة العظيمة التي جعلها الإسلام لهذه السلوكيات في سلم القيم القرآني الخالد.
الأسبوع الماضي تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية والقنوات الإعلامية ثلاثة أخبار كلها تؤكِّد تجذّر هذا البعد وتغلغله في نسيج هذا المجتمع المتناغم مع طبيعة تكوينه المتوارث، ها هو فهد الخزام يفتح بيته للعزاء في عامله اليمني حسن عياش البالغ من العمر 70 عامًا، قضى 50 منها في حي مغيضة حدري حائل تحت كفالة (الخزام) - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته- وها هم الحائليون يتناقلون خبر وفاته ويعزون بعضهم البعض فيه ليضربوا مثلاً في الوفاء جديداً، وفي ذات الوقت استراحة شبابية يتنادون لشراء سيارة جديدة لصديقهم المحبوب بعد أن تلفت سيارته ولم يستطع شراء البديل، وما هي إلا 72 ساعة حتى توفر كامل المبلغ ليتم شراء ما أرادوا ضاربين المثل في تعيّن دلالة هذا المصطلح الصحيحة والحقيقية (صديق) الذي شاع وتعدّدت شعبه ومساراته في عصرنا الحديث حتى صار مبتذلاً إلى حد الإسفاف، ولا يحمل من معاني الإنسانية إلا الشيء البسيط، وثالث الأخبار خبر الشاب الإثيوبي الذي اكتسب سجية الكرم من أهالي المنطقة فشب ناره في طريق حائل - القصيم، ووضع لوحته للمارة داعياً إياهم لتناول القهوة والشاي.
طبعاً هذا غيض من فيض، ومجرد أمثلة عارضة، مع يقيني بأن هناك من البراهين والشواهد ما هو أكثر دلالة وأشد وضوحًا على تناغم هذه الشخصية مع السمات الإنسانية التي تتجاوز بها الشخصية الحائلية كل الأطر الضيقة، والأصفاد الآسنة، منفتحة على الآخر، معبرة عن حقيقة تكوين مثالي يجمع في شخصيته (النخوة والجود والكرم والوفاء والصدق والأنس)، وقل ما شئت مما هو إرث إنساني تتفاخر به الأمم، ويتمايز الناس فيه، ويبقى الكرم الحاتمي العنوان الأكثر وضوحًا والأبرز وجودًا في هذه الشخصية حتى الساعة، وكأن هذه الجينيات تتوارث من جيل لآخر، ويبقى الوفاء والولاء والسمع والطاعة لولاة الأمر وقادة بلادنا المملكة العربية السعودية ديدننا نحن جيل اليوم ورثناه عن الآباء والأجداد كابرًا عن كابر، ونعاهد الله ثم نعاهد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين أن نورثه للأبناء كما ورثناه عن أسلافنا، حفظ الله ديارنا وأدام عزنا ونصر جندنا ووقانا شر من به شر، ودمت عزيزًا يا وطني، وإلى لقاء والسلام.