د. حمزة السالم
اقتصاد يعتمد إنتاجه على استهلاك الموارد الطبيعية، ليس اقتصاداً ثابتاً. فالموارد الطبيعية تنضب. فهو إما أن يتحول خلال استهلاكه للإنتاج الدَّخْلي كالزارعة والسياحة؛ فيحكمه نظام السوق غير الحرة الإقطاعية، تحت حكومة ديكتاتورية، أو يتحول للإنتاج الصناعي؛ فتحكمه السوق الحرة الرأسمالية بحكومة ديمقراطية.
وقد يكون السيناريو أن تنتهي ثرواته الطبيعية دون استثمارها في اقتصاد ثابت؛ فتنتهي الثروات، وتتفكك الأقاليم وتسقط الدول. فاقتصاديات استهلاك الموارد الطبيعية كاقتصاديات الغزو قديماً، وكالعوائد الاستعمارية التي كانت تعود على بريطانيا وهولندا وفرنسا في استعمار دول العالم، لم تكن دخلاً ثابتاً، بل كانت سبباً للانهيار أو التأخر. وكذلك هي اقتصاديات البترول والموارد الطبيعية، ليست باقتصاديات ثابتة، لعدم ثبات الموارد الطبيعية. فهو كاقتصاديات الغزو، سترهلها ثروات الغنائم، فيخلدوا إليها؛ فتفسد أخلاقهم وتنعم خشونتهم، وتفرق كلمتهم، حتى تقضي على مجتمعاتها.
ليس النفط غريباً عن الإنسانية، فقد عرفته قديماً وأدركت نعمته ونقمته على الشعوب. فأينما أصبحت الموارد الطبيعية المستنفدة عموماً (وأهمها النفط) هي المسيطرة على الاقتصاد، أصبح هناك شلل في الإنتاج، وتعطل في الإبداعية، وإبطاء في النمو الاقتصادي، وارتفاع في معدلات الفقر (ولو بعد حين قريب). ومن أكبر الآثار الضارة من أموال النفط، أنها تعمل على إضعاف مؤسسات المجتمع المدني، بجعله معتمدا على التخطيط المركزي (الإداري والاقتصادي). ولو سبر الناظر المتأمل دول العالم المتخلف جميعها، لما وجد جامعاً يجمع بينها كلها إلا التخطيط المركزي، بشقيه الإداري والاقتصادي.
وحديثاً في دول الخليج، والتي قد أدركها خير كثير من ثروة النفط، إلا أنها لم تسلم من سكرته. فأموال النفط وقوته السياسية قدمت غطاءً أقنعت المجتمعات الخليجية بصلاحية كثير من جوانب ثقافتها الاجتماعية التي تتعارض مع الحياة الحديثة التي تعيشها، والتي استمرت على حساب نفقة النفط، كمنع المرأة من العمل، والترفع عن الأعمال اليدوية والمهنية. كما أظهر فيها الاتكالية والاعتماد على الخبراء الأجانب؛ مما منع المجتمعات الخليجية من الاستثمار في العقول المحلية، وزرع فيها عدم الثقة في الخبرة المحلية. وهذه معضلة تتداخل عواملها بعضها ببعض، وتسبب كل منها الأخرى. كما أسرفت المجتمعات الخليجية في استجلاب العمالة الأجنبية بغير حاجة؛ مما عمل على ضعف إنتاجية الخليجي بالجملة. إضافة إلى المجتمع الخليجي اعتمد على الحكومة في تخطيطها المركزي؛ فتعطل الحافز لتكوين المؤسسات المدنية. وضمنت أموال النفط البنوك من الإفلاس؛ فانتشرت الفوضى القانونية المالية. وتخدرت البنوك فقعدت عن التطوير، وعن توجيه أموال المودعين للاستثمارات الأمثل في المجتمع.
وقد استطاع نفط الخليج أن يخلق طبقة وسطى في مجتمعات الخليج، ولكنها طبقة غير حقيقية. فهي لم تنشأ عن طريق التفاعل الطبيعي الذي يخلق الطلب والعرض في المجتمعات الصناعية. إذ إن أفراد الطبقة الوسطى الخليجية لم تنشأ بسبب عملها وإنتاجيتها، بل لتوزيع الثروة النفطية على أفراد المجتمع. واستهلاك الطبقة الوسطى الخليجية، يحرك العرض في الدول المصدرة الأخرى، لا في دول الخليج. فلهذا؛ عندما عجز النفط على الإنفاق على الطبقة الوسطى، تضاءلت هذه الطبقة بسبب نمو السكان المتزايد في وتيرته على تزايد نمو ريع النفط. فالطبقة الوسطى الخليجية الموجودة التي بدأت تتآكل اليوم في بعض دول الخليج، هي نتاج صناعة التخطيط المركزي القائم على أموال النفط. وستُعجل زيادة عدد السكان وزيادة الاستهلاك المحلي للنفط وقيام الصناعات عليه، بعجز النفط عن مواصلته في إيجاد هذه الطبقة الوسطى أوالمحافظة عليها. وغياب الطبقة الوسطى هو غياب الأساسيات لأي استقرار سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو أخلاقي.