د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يعتنق بعضُ معتمري الهمِّ الثقافيِّ منطقَ «الحسم» في تسريع التغيير الذي يرتؤونه؛ فقد طال في مقارباتهم أمدُ الجمود وثقلُ القيود، ولا وقتَ عندهم للإقناع كما لا مكان للاقتناع، وتقابله لغة « الهدوء» التي يحسَبها مخالفوهم أدعى إلى رسم تغيير تدريجي يأذن بتقليل ساحات التصادم وتعريض مساحات التفاهم وفق بناءٍ معرفيٍ ينسجم مع الشعائر ولا ينقاد للشعارات والمشاعر.
** لسنا أولَ من نادى بالحسم الثقافي والمجتمعي، كما أننا لن نكون بدعًا حين نتبنى التأني كذلك؛ ففي التجارب المماثلة ما ينسجم مع المسارين، وحين ضجت مجتمعاتٌ مُفكرةٌ بزوابع التغيير شاء بعض قادة الرأي اختيار التدرج بين الاندفاع والتفرج؛ فتحرَّوا إيجابيةَ المشاركة وعقلنتَها من غير أن يعنيَهم جيلٌ سيأفُل أو جيلٌ سيمثُل؛ فالمدى المعرفي لا يستجيب لأزرَّة التقنية الصمَّاء التي جعلت إمضاءاتنا مرتهنةً ببنانٍ دون بيان.
** يأتي تناقض المسارين من وضع التغيير الثقافي ندًا للتغيير المجتمعي الذي لا يأخذ وضعية الثبات بل يمتاز بقابلية التبدل بما يضاد البناء الثقافي الذي يعسر قسرُه أو كسره، وقوتُه مقرونة بقدرته على تفكيك المعادلات بهدوء، وقد شهد التأريخُ الثقافي سقوطَ راياتٍ وعلوَّ أخرى وبقاءَ مداراتٍ آمنةٍ لا يخترقها دعاةُ الانفلات والافتئات أو الانكفاء والاكتفاء.
** أطلق «نيتشه 1844-1900م» على المجتمع الألماني (أمة المفكرين)، وربما عنى ضمنًا موحدَ الولايات الألمانية ومؤسسَ إمبراطوريتها «البروسية» الكبرى : «بسمارك»1815-1898م»؛ فللسياسي دورُه في تهيئة المناخ الإيجابي الإنتاجي، وكذا «كارل ماركس 1818-1883م» وهو ألماني كذلك؛ فللاقتصادي مكانُه في حراك التغيير الشمولي، وأسماءً مؤثرةً من علماء الدين والتربية والاجتماع والدراسات البحتة والتطبيقية والكتبة الذين أسهموا في صناعة حضارة «الرايخ» من غير أن يتبنَّوا التغيير الفوري، وفي مواجهتهم حركات اندثرت حيث لم تُهيئ الأرضيةَ الصلبةَ لنقل الفكر النظري إلى الممارسة العملية.
** قيادةُ الثقافة المتزنة وسيطٌ مهم في التغيير، وإذ يراهن بعضنا على ربحية الأصوات العالية فإن الأمر ليس بهذا اليسر؛ فقد يعلو همسٌ على صخب ويخلد كسيرٌ فوق جهير، وتوازي المشروعات الثقافية مع التوعية المنهجية عبر نظرات شمولية إيحاءٌ بوضع التغيير الثقافي في مساراته المنطلقة لا سجالاته المتمنطقة، وقد شاء «هتلر 1889-1945م «رفع قومه فوق ما ارتفعوا فعادوا إلى المربع الأول، لكن التجربة الألمانية نهضت من الركام حين أدركت مفاتيح قوتها.
** لابن رشد الحفيد 1126-1198م - وهو أحدُ رموز الثقافة العربية- تعريفٌ للقوة بوصفها العمل المبذول في تغيير الحالة الحركية للجسم المادي، وهو ما يحتاجه التغيير السياسي والاقتصادي والمجتمعي، أما قوة العقول فتعني القدرة على استشراف المستقبل بما يحميه من التبعية ليكون صوتًا لا صدى ومن غير ريثٍ أو عجل، والظن أن ابن رشد لم يعره عنايتَه حين واءم الفلسفة والدين وشاء الانطلاق بهما معًا فتعثر.
** المثقفُ منطق توازن.