أ.د.محمد بن حسن الزير
من أجل أن نتذكر
تنعَّم الحجاج في رحاب بيت الله الكريم، وفي أكناف المشاعر المقدسة، وقضوا مناسك حجهم، ومآرب نفوسهم الخيرة، في مكة المكرمة، وأتم عليهم ربهم نعمه ظاهرة وباطنة بإتمام ذلك النسك العظيم في أمن وأمان، وفي سكينة واطمئنان، وبعد أن مسَّحوا بركن البيت العتيق، وبحجره الأسعد العريق في طواف وداعهم، وتضلعوا بالري من ماء زمزم المبارك، سالت بهم ركابهم في الأودية والفجاج نحو مدينة المصطفى، سيد الأنام عليه الصلاة والسلام؛ ليتزودوا في مسيرتهم الإيمانية بمزيد من الروحانية والتقوى ممتطين ركابا لهم في رحلة سفرهم، إلى يثرب الخير، جوف قطار الحرمين المريح، أو مقاعد الحافلات الوثيرة، أو في أجواء السماء عبر الطائرات السعودية تقلهم من جدة إلى طيبة الطيبة.
لقد كان بعض الحجاج قد تمتعوا بزيارة المدينة المنورة قبل حجهم، وسعدوا فيها بزيارة مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والصلاة فيه، وتشرفوا بالسلام عليه؛ ولكن بعضهم يجعلون زيارتهم للمدينة بعد فراغهم من أداء الحج، ثم ينطلقون إلى تلك الرحاب، تحفهم عناية الله، وترفرف عليهم رحماته، وتجيش في قلوبهم الأشواق المتقدة، ويضطرم في أفئدتهم الحنين الجارف؛ لتكتحل عيونهم بتلك الربى التي طلع البدر عليها بمقدم النبي الكريم إليها، وقد دعته، صلى الله عليه وسلم، فاتحة ذراعيها وقلوبها، سعيدة بنصرته، مسرورة بقدومه مهاجرا إليها، مرددة، في شغف وحب:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع
وفي المدينة انطلقت الدعوة الإسلامية تنشر نورها على الجزيرة العربية، ومنها تواصل إشعاعها النوراني الرباني ليعم أرجاء المعمورة، الحق والعدل والمساواة، والخير، والهدى، رحمة للعالمين وهداية للثقلين، ومنارا للسالكين ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لسعادة الحياتين الدنيا والآخرة؛ تلك الدعوة التي حمل لواءها، وبلغ رسالتها من أرسله الله رحمة للعالمين؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء.
لقد كان رحمة في حال ضعفه، حين كان يلقى من قومه أشد البلاء، ولم ينتقم لنفسه وقد آذوه، وقد بعث الله إليه ملك الجبال ليأمره فيهم بما يشاء؛ ولكنه قال مقولته العظيمة: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» رواه مسلم، وكان مثالا للرحمة والسماحة والعفو في حال قوته وانتصاره، حينما منَّ على أهل مكة وعفا عنهم بعد الفتح المبين، وقال الحافظ ابن حجر: «الطلقاء جمع طليق: من حصل من النبي، صلى الله عليه وسلم، المنَّ عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم» فتح الباري 8/48.
إن زوار المدينة من الحجاج وغيرهم، يجدون في مدينة الرسول العظيم، والنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وفي رحابها الأنيسة المفعمة بالسكينة والسلام، يجدون الاستقبال الكريم من المدينة وأهلها، والخدمة المتكاملة، والراحة التامة، والتمتع بمثل ما تنعموا به في رحاب مكة المكرمة من خدمات وتسهيلات، وعناية فائقة؛ تتمثل فيما هيأته حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - وسمو ولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - من إمكانات وجهود متواصلة، تقدمها إمارة منطقة المدينة المنورة، بقيادة أميرها الكريم سمو الأمير فيصل بن سلمان بن عبد العزيز- حفظه الله - وبتوجيهاته لجميع أجهزة الحكومة وقطاعاتها في المنطقة من عامة وخاصة، ومن هيئات مؤسسات وجمعيات خيرية وأفراد، وكلهم قد تهيأ وأعد نفسه وأعد عدته ليكون في خدمة زوار مدينة الرسول المصطفى والقادمين للتشرف بالسلام عليه، صلى الله عليه وسلم، آخذين على أنفسهم أن يقوموا برعاية هذا الزائر الكريم؛ من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها؛ وبخاصة وفود الرحمن الذين جاؤوا إلى هذه البقاع المقدسة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وليتمتعوا بأيام ريانة بالرضى والحبور، ولتتمتع أرواحهم بمزيد من التقرب إلى الله الكريم، والحظوة بزيارة مسجد النبي الكريم، والتشرف بالسلام على سيد الأنبياء والمرسلين؛ محمد النبي الأمين، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، في أجواء من عناية جميع المسؤولين والمعنيين؛ من وزراء ومسؤولين، ورعايتهم بكل ما أوتوا من وسيلة، وبكل ما يملكون من أسباب، وفي كل مجال وميدان؛ دينيا وأمنيا واجتماعيا وصحيا، وتقديم أفضل خدمات الاتصالات والمواصلات.
لقد جاء الزوار والحجاج ليمتعوا أعينهم برؤية المشاهد والشواهد الإسلامية المتعددة في عرصات طيبة الطيبة التي عاشها النبي، عليه الصلاة والسلام، وأصحابه الكرام، ابتداء من المسجد النبوي الذي حظي بالتوسعات المتعددة، والخدمات الراقية والعناية الفائقة في العهد السعودي الزاهر، ممثلة فيما تقدمه وكالة الرئاسة العامة لشؤون المسجد النبوي، وزيارة البقيع والسلام على أهله، وزيارة العديد من المساجد التاريخية، وفي طليعته مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى في طيبة الطيبة، وقد تفضل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -يحفظه الله- بأن يكون مفتوحا بصورة دائمة للمصلين؛ لما في الصلاة فيه من فضل وثواب، ورؤية مواقع الأحداث المهمة في مسيرة الإسلام الأولى؛ مثل موقع بدر الكبرى التي كانت فرقانا بين الحق والباطل، وموقع أحد وجبل الرماة، ومكان الخندق، وغير ذلك كثير من الآثار التاريخية، التي تدل على مآثر الرعيل الأول من الصحابة الذين قادهم الرسول الأكرم، عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، وليعود الزوار، إلى أوطانهم، عبر أصقاع الدنيا، في هذا العالم المترامي الأطراف، وقد انتشت نفوسهم، وتعطرت أرواحهم، واستروحت أفئدتهم، وزكت قلوبهم بتلك المشاهد والذكريات.
الشكر والتقدير والامتنان لقيادتنا الرشيدة التي جعلت من خدمة الحرمين الشريفين، ورعاية قاصديهما من حجاج وزوار هدفا ساميا يتشرفون بتحقيقه على أكمل وجه، باذلين في سبيل ذلك كل غال ونفيس، ضاربين في ذلك أروع الأمثلة على التفاني في تقديم الخدمة الأفضل، والإنفاق على تحقيق ذلك بسخاء وأريحية واستمرار؛ فجزاهم الله خير الجزاء، وجعل ذلك في موازين حسنات هذه الدولة، التي لا تألو جهدا في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين، وخدمة قضاياهم، في كل مجال، وعلى كل صعيد، ونسأل الله العلي القدير أن يزيدها توفيقا وتأييدا ونصرا لتواصل مسيرتها الخيرة، وتحقق رسالتها السامية النبيلة.
وختاما، رحم الله الشاعر الراحل الدكتور غازي القصيبي القائل:
نعم نحن الحجاز ونحن نجد هنا مجد لنا وهناك مجْدُ
ونحن جزيرة العرب افتداها ويفديها غطارفةٌ وأسْدُ